من حيث المبدأ، أمامنا 3 الى 6 أشهر من المُراوحة قبل ان تتظَهّر معالم الخط البياني الذي سيسلكه البلد. وهذا يعني انّ المرحلة الانتقالية ما بين «عهد» رياض سلامة، و«عهد» ما بعده، لن تحمل مفاجآت، من حيث المبدأ على الأقل، على اعتبار ان لا شيء مضموناً في الوضع اللبناني.
شعر اللبنانيون عموماً بالارتياح عندما سمعوا أنّ نواب حاكم مصرف لبنان حسموا أمرهم، ولن يستقيلوا، وسوف يتحمّلون مسؤوليتهم في ادارة الوضع النقدي في الايام الطالعة، في غياب حاكم أصيل لمصرف لبنان. هذا الارتياح نابع من مجموعة قناعات، أبرزها:
اولاً – انّ استقالة نواب الحاكم كانت ستفتح الباب امام كل الاحتمالات، بما فيها تعيين حارس قضائي، مع ما يستتبع ذلك من تجاذبات سياسية، حول هوية هذا «الحارس» ودوره. بالاضافة الى القلق حيال الشعور بأن مصرف لبنان مؤسسة مُفلسة، على اعتبار ان مهمة الحارس القضائي في الاساس هي المحافظة على موجودات اية مؤسسة يتسلمها، ومن ثم الاشراف على التصفية لضمان عدالة توزيع ما تبقى من اموال على اصحاب الحقوق.
ثانياً – ان سعر صرف الدولار سيبقى مستقرا الى حد ما، بفضل استمرار سياسة ضخ الدولارات.
ثالثاً – انّ عدول نواب الحاكم عن الاستقالة، يعني ان الحكومة وعدتهم بإجراءات يطالبون بها، بما يسهّل عملهم، في المرحلة الانتقالية التي يتولّون فيها المسؤولية.
هل فعلاً ينبغي ان يشعر اللبنانيون بالارتياح الى النتيجة التي أفضَت اليها المفاوضات والتجاذبات بين نواب الحاكم و«الدولة»، بشقّيها التنفيذي والتشريعي؟
من الوجهة الاقتصادية والفعلية، يبدو التفاعل مع ما يجري غريباً بعض الشيء، خصوصاً بالنسبة الى الموضوع الأهم، وهو التالي: هل يجوز ان يُنفق نواب الحاكم من الاحتياطي الالزامي لتسيير شؤون الدولة من دون تغطية قانونية، ام ينبغي وجود تشريع يقونن هذا الانفاق؟
هذا السؤال في حدّ ذاته مضبطة اتهام، لأنه ينطلق من مبدأ خاطئ. وهو يعني واقعياً ان الخلاف محصور بهوية «الحرامي» الذي سيتحمّل مسؤولية مَدّ اليد على اموال الناس، هل هي الدولة ام ادارة البنك المركزي؟
طبعاً، جرى تحوير هذه المسألة، على اعتبار ان الطبقة السياسية صَوّرت الامر وكأنّ نواب الحاكم يريدون قانوناً يشرّع لهم مصادرة اموال الناس، في حين ان نواب الحاكم كانوا يقولون ان سلامة نفّذ هذه المصادرة من دون الحاجة الى قانون، وبالاتفاق طبعاً مع «الدولة»، في حين انهم لا يريدون تقليده، ويريدون ان تتحمّل الدولة امام الرأي العام قرار هذه المصادرة.
طبعاً، هذا الكلام لا يدين نواب الحاكم ولا يُبرّئهم، على اعتبار انّ ما جرى حتى اليوم، كان اكبر منهم، ومن إمكانية التصدّي له. وهم يعرفون انهم لا يستطيعون مواجهة النادي السياسي الحاكم، ولكنهم عبّروا عن عدم رغبتهم في متابعة هذا الامر الى ما لا نهاية، وهذا امر جيد. بمعنى، انّ نواب الحاكم أدركوا انهم عاجزون عن وقف الانفاق الفوري من اموال الناس لِسد حاجات الدولة، ولكنهم لا يريدون في الوقت نفسه اعتماد سياسة «السرقة» ضمن فترة مفتوحة، وغير محدّدة بسقف زمني. كما انهم يريدون من الدولة ان تكشف عن وجهها الحقيقي، وان تقول انها هي مَن قرّر أن «يسرق»، ولو بذريعة حماية المصلحة العامة وضمان الأمن الاجتماعي.
قد يكون نواب الحاكم، وعلى رأسهم النائب الاول وسيم منصوري، خائفين الى أقصى الحدود، وقدموا صورة مهزوزة عن قدراتهم على تحمّل المسؤولية، لكن هذا الخوف مُبرّر اولاً، وقد يُستفاد منه ثانياً، للضغط على الدولة لاتخاذ قرار وقف سرقة الناس، وتحمّل مسؤوليتها في ضمان المصلحة العامة والامن الاجتماعي، من دون الحاجة الى مصادرة الملكية الفردية التي يحميها الدستور.
ليس مهماً إذا ما كان الانفاق من اموال الاحتياطي سيتمّ بغطاءٍ قانوني من الدولة، ام سيبقى على مسؤولية ادارة مصرف لبنان، وليس مهماً حتى اذا ما كان يمكن الطعن بأي قانون قد يصدر لتشريع السرقة، بل الأهم ان تتوقّف السرقة من خلال اجراءات تسمح بوقف الانفاق من الاحتياطي، من دون ان يأتي ذلك على حساب الأمن الاجتماعي، وتعميق مآسي الفقراء الذين باتوا يشكلون اكثرية موصوفة في المجتمع.
ما جرى حتى اليوم «جريمة» غير مسبوقة ارتكبتها الدولة، عن طريق مصرف لبنان. وليس أدلّ من ذلك، ما ورد في تقرير صندوق النقد الدولي الذي اشار الى ان الوضع المالي كان مقبولاً حتى العام 2017، حين لم تكن هناك فجوة مالية حتى ذلك التاريخ. وهذا يعني ان «الدولة» التي لا تريد ان تتحمّل مسؤولياتها هي المسؤولة شبه الوحيدة عن الكارثة الحالية التي يمر بها البلد. في ذلك العام أقرّت سلسلة الرتب والرواتب، واصبحت عاجزة عن الاقتراض من الاسواق العالمية، وحّولت مصرف لبنان الى «قجّة» مُباحة سحبت منها الاموال، إمّا عبر دَفعه الى الاكتتاب بسندات اليوروبوندز، وإمّا عبر دَفعه الى تغطية عجز الموازنة المتزايد بسبب الارتفاع السريع في مستويات الانفاق. ومن ثم قررت اعلان الافلاس (التوقّف عن الدفع) في آذار 2020، واستكملت المأساة من خلال السماح، أو اعطاء الاوامر، بهدر مال المودعين على الدعم العشوائي، او عبر السماح بإصدار تعاميم سمحت بتسديد القروض الدولارية للمصارف بالعملة المحلية. يكفي ان نعود الى الارقام لكي نلاحظ ان مجموع حجم الودائع بالليرة في كانون الثاني من العام 2017 كان 107.1 مليارات دولار. في ذلك الحين كانت موجودات مصرف لبنان وصلت الى 44.3 مليار دولار. وكانت موجودات المصارف في الخارج لا تقل عن 10 مليارات دولار، بالاضافة الى كتلة دولارية في الداخل لا تقل عن 5 مليارات دولار. كما ان حجم القروض بالدولار وصل الى عتبة الـ40 مليار دولار، ونسبة كبيرة منها مغطاة بضمانات. ومن خلال حسبة بسيطة للأرقام سيتبيّن ان حجم الودائع الذي كان يناهز الـ107 مليارات دولار شبه مغطى بالكامل! (ملاحظة: لم يتم احتساب رساميل المصارف التي كانت تناهز الـ20 مليار دولار).
هذا الواقع الذي لم يأخذ حقه حتى الان في الدراسات التي تجري في توصيف اسباب الانهيار ومساره، كافٍ للدلالة على ان الكارثة حلّت بعد الـ2017، أي عندما بدأت «اللادولة» في ممارسة هواية الاهمال ومصادرة الاموال وشراء الوقت وهدره بأسلوب إجرامي فظيع أوصَلنا اليوم الى فجوة الـ73 مليار دولار وربما أكثر.
هذه هي المشكلة التي ينبغي ان تُعالج فوراً، بدل الخلافات على تحديد من سيتحمّل مسؤولية الاعلان عن قرار مواصلة سرقة الاموال ودفع البلد نحو الخراب الكامل.
أنطوان فرح