في وقت تبدو فيه أوروبا كلها في حالة جمود مقارنة بالولايات المتحدة، انضمت بريطانيا إلى إيطاليا باعتبارهما المريضين الأشد تداعياً على مستوى القارة، وذلك مع تراجع معدلات المعيشة في بريطانيا لمستويات دون جيرانها كثيراً، ما جمد اقتصادها في حالة سبات مستمرة منذ 15 عاماً، مع معاناة مؤسسات الخدمة العامة لديها، بما في ذلك هيئة الخدمات الصحية، التي في حالة تراجع واضحة للعيان، والتي لطالما جرى التفاخر بها.
وغالباً ما يجري إلقاء اللوم على حزب المحافظين، الذي ظل في سدة الحكم خلال الجزء الأكبر من هذه الفترة، بسبب دعمه لإجراءات تقشف خلال فترة ما بعد الأزمة المالية، وإقراره البريكست. بيد أن المشكلة الأعمق أن المحافظين سجنوا أنفسهم داخل توجهات محافظة جامدة، وأسهم في ذلك حقيقة أن قاعدتهم تضم مواطنين أكبر سناً وأصحاب ممتلكات، فيبدون راضين بالإبقاء على الوضع القائم المحبوب لديهم، على نحو يجعل من المستحيل الشروع في البناء أو جهود التنمية بأي مكان.
ومن جديد، تبدو هذه مشكلة عامة تجابه الدول الغنية التي يتقدم هرمها السكاني بالعمر. ومع ذلك، نقلت بريطانيا هذا النموذج إلى نقطته القصوى.
على سبيل المثال، يشير أحد التقديرات إلى أنه لم يسبق أن شهدت البلاد منذ سبعينات القرن التاسع عشر ارتفاع أسعار المنازل على هذا النحو الاستثنائي مقارنة بالأجور. يأتي ذلك اليوم بمثابة عقاب للأجيال الأصغر على المدى القصير، ومن شأنه تعميق حالة الركود على المدى الأطول، مع إرجاء الشباب قرارات الزواج والإنجاب. بجانب ذلك، يتفاعل هذا الوضع على نحو سام مع جدالات ثقافية، لأن الحكومة في خضم مساعيها لتحقيق نمو اختارت زيادة معدلات الهجرة، في وقت تتداعى فيه خطط تحقيق النمو التي تتبعها. وفي الوقت الذي تسهم هذه الخطط بالفعل في زيادة إجمالي الناتج المحلي، فإنها بالتزامن مع ذلك تجعل المهاجرين يبدون وكأنهم السبب وراء ارتفاع أسعار المنازل، ما يؤجج مشاعر انعدام الثقة تجاههم.
ومن أجل التعرف على رؤية طويلة الأمد لمشكلة عجز المساكن في بريطانيا، أوصي بالاطلاع على «لماذا لا تبني بريطانيا؟»، مقال للكاتب سامويل وولتينغ بدورية «ووركس إن بروغريس» الإلكترونية. ويصف في المقال الرؤية الحضرية للجنة التخطيط المركزي ببريطانيا خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي تقوم على منظومة من «المدن الجديدة» ذات الكثافة السكانية المرتفعة، تربط بينها وبين قلب لندن خطوط سكك حديدية، وفيما بينها كثير من المناطق الريفية المحمية.
إلا أن المخططين قللوا من حجم المعارضة لعمليات البناء المكثف، حتى داخل مناطق «المدن الجديدة»، في الوقت الذي أصبح من الصعب إعادة تصنيف «الحزام الأخضر». وعليه، كان هناك دوماً قدر أقل من الكثافة، وأجزاء أوسع من الأراضي الخاضعة للحماية عما تصورته الخطة الأولية. بعد ذلك، زادت بريطانيا ثراءً، وازدادت أعداد الأشخاص المالكين للمنازل، وتعمقت مشاعر المعارضة ضد أعمال البناء والتشييد الجديدة، ولم يكن لدى السلطة المركزية سوى سلطة اسمية دون تفويض حقيقي، سلطة عاجزة عن فك المركزية، أو ببساطة فرض عمليات البناء الجديدة.
وخلال جولاتنا الصيفية، اقترح الوزير مايكل غوف خطة جديدة للتنمية الحضرية، مع بناء ما يصل إلى 250 ألف منزل جديد حول جامعة كامبريدج، ما عرضه لتوبيخ سريع من جانب برلماني محلي عن حزب المحافظين، واصفاً الخطة التي طرحها غوف بأنها «خطط عبثية».
بوجه عام، تقف بريطانيا اليوم معتمدة على اقتصاد مالي واقتصاد سياحي، بينما يبقى الرخاء بعيد المنال.
ومع ذلك، نجت بريطانيا من كثير من صور القبح التي ضربت بلاداً أخرى بفضل حماسها تجاه الحفاظ على المناطق الريفية. والمأمول خلال الفترة المقبلة أن تعود بريطانيا إلى مسار النمو والأمل، مع الاستمرار في حفاظها على الجمال.
روس دوثات