يحتاج مضمون تقرير التدقيق الجنائي المكوّن من 332 صفحة، الى قراءة هادئة ومحترفة لتحليل المعلومات والمعطيات الواردة فيه، لكنّ العناوين العريضة واضحة من حيث المبدأ، وتُفيد بأنّ رياض سلامة ارتكب مخالفات، وبعض السياسيين استفادوا من أموال الصندوق الأسود، وبأنّ «الدولة» كانت المستفيد الاكبر، وهي مَن هدر المليارات.
تلهّى البعض في تفاصيل رقمية وردت في مضمون تقرير التدقيق الجنائي الذي أجرته شركة «مارسال/ألفاريز»، لإطلاق المواقف والتحليلات، وصولاً الى استنتاج مفاده انّ حاكم مصرف لبنان السابق يقف وراء الهدر وسرقة الاموال، بما أدّى الى الانهيار، وفقدان المودعين لأموالهم. في المقابل، استفادت جماهير الاحزاب من التقرير للتصويب في اتجاه خصومها. بدأ «العوني» يَتباهى بأنّ سياسته أدّت الى كشف الحقائق التي تُظهر ان سلامة هَدرَ مال المودعين. وراح «القواتي» يصوّب سهامه في اتجاه العوني من زاوية ان الكهرباء، التي كانت في عهدة التيار الوطني الحر، استهلكت لوحدها حوالى 24 مليار دولار في 6 سنوات. وبدأ خصوم تيار المستقبل يغمزون من قناة ورود اسم النائب بهية الحريري في لائحة المستفيدين من اموال المركزي، كذلك اشتعلت جبهات الشتائم والاتهامات على خلفية ورود عناوين المهرجانات التي استفادت من دعم مالي من المركزي، وهي مهرجانات مرتبطة بأسماء زوجات سياسيين.
كل هذه «الحروب» الصغيرة لا تضع الاصبع على الجرح، لأن مثل هذه «المخالفات» التي سمحت بتسرّب اموال لدعم مهرجانات او مؤسسات او حتى اشخاص، ليست بيت القصيد، وهي حتماً ليست السبب الذي أدّى الى الانهيار والافلاس وهدر اموال الناس.
في الواقع، يمكن الاستنتاج، ومن خلال العناوين العريضة للتقرير، الحقائق التالية:
اولاً – تأكيد ما أكده تقرير صندوق النقد الدولي بنسخته الانكليزية الموسّعة، والذي اشار الى انه حتى العام 2017، لم تكن هناك فجوة مالية، وكانت اموال المودعين مؤمّنة بالكامل تقريبا، في القطاع المالي اللبناني. (مصرف لبنان والمصارف). في حين ان تقرير التدقيق الجنائي اشار الى فائض بالعملات في مصرف لبنان حتى العام 2015 بلغ في حينه حوالى 7,2 مليارات دولار. وهذا يعني ان فجوة الـ73 مليار دولار نشأت في السنوات الاخيرة، لا سيما ان التدقيق الجنائي يحدّد الخسائر التي تراكمت حتى اوائل العام 2020 فقط، وقد اشار الى انها وصلت الى 50,7 مليار دولار.
ثانياً – ان ادارة مصرف لبنان كانت أحادية (solo) ومحصورة برياض سلامة، وان الرجل ارتكب مخالفات ليس أخطرها تقديم الدعم او القروض المدعومة لجمعيات او مؤسسات او مهرجانات، بل ما يتعلق بالاستفادة الشخصية المحتملة، من خلال شركة «فوري»، وهذا الملف موضع تحقيقات في لبنان واوروبا، ولم تصدر الأحكام النهائية في هذه القضية حتى اللحظة.
ثالثاً – انّ «الدولة» بمفهومها الواسع هي المسؤولة عن الانهيار، وهي المستفيد الاول من اموال المودعين، كما انها الهادِر الاكبر والاساسي لهذه الاموال. سواء من خلال قطاع الكهرباء، او من خلال سياسة الدعم، او من خلال اقتناص الاموال من مصرف لبنان عبر «إلزامه» بالاكتتاب في سندات اليوروبوندز، او حتى من خلال تثبيت سعر صرف الليرة، واستعمال اموال المودعين من اجل هذا التثبيت.
رابعاً – الهندسات المالية كانت لها حصة كبيرة في اسباب الانهيار المالي، ولكن المفارقة ان هذا الامر كان معروفاً وواضحاً، وكانت «الدولة» تعرف في حينه ان سلامة يشتري لها الوقت بسعر باهظ، ولم يرف لها جفن، بل تابعت في سياسة تبذير هذه الاموال، من خلال سلسلة الرتب والرواتب، الانفاق الاضافي الذي غطّاه مصرف لبنان من امواله (اموال المودعين). وكان معروفاً اكثر ان الهندسات المالية طريقة ابتدَعها سلامة لجذب كل اموال المصارف المودعة في الخارج الى خزائنه، وهذا ما حصل فعلاً. والمشكلة هنا ايضا، ان اسعار الفوائد التي دفعها سلامة لم تكن وحدها الحافز الذي دفعَ المصارف الى سحب الدولارات من المصارف المراسلة وايداعها مصرف لبنان، بل ان المعضلة كانت في ان اي مصرف لا يشارك في هذه العمليات المالية، لا يستطيع دفع فوائد مرتفعة لمودعيه، كما بقية المصارف المشاركة في الهندسات. وبالتالي، كان سيصبح بعد فترة خارج السوق، وقد يتعرّض للافلاس.
التدقيق الجنائي اكد المؤكد، لا اكثر ولا أقل، وهو ان الدولة هي صاحبة «الفضل» الاول والاساسي في إفلاس البلد، وهناك من استفاد من هذه الفوضى، للحصول على حصة ولو زهيدة نسبياً من هذه الكعكة السائبة.
أنطوان فرح