حرب كاراباخ تصحيح للتاريخ وتأمين للطاقة

في أعقاب نجاح العملية الخاصة الأذربيجانية كان لافتاً هروب الآلاف من الأرمن نحو أرمينيا، مكرسين قناعة عام 1915: الأرمن لا يثقون بالترك، ولا الترك الأذاريون يثقون بهم. ولكي نفهم جوهر الصراع لا بد من العودة لعامي 1813 و1828 عندما وقع الروس والإيرانيون اتفاقاً لتقسيم أذربيجان إلى شمال وجنوب، فكان الشمال من نصيب روسيا، والجنوب من حصة إيران. قرر الروس آنذاك تغيير الواقع الديموغرافي من خلال السماح للأرمن والمسيحيين باستيطان المناطق الجديدة، ومنها إقليم كاراباخ، ومع الوقت أصبح السكان الجدد أكثرية، ولم يعودوا يطيقون أن يكونوا تحت أي سلطة أذربيجانية؛ هنا بدأ النزاع في المناطق ذات الأغلبية الأرمينية المسيحية، ومنها إقليم ناغورونو كاراباخ؛ هذا النزاع حاولت حكومة ستالين أن تحله، لكنها فشلت بإقناع الطرفين، وإن كانت تميل للأرمن، إلا أن مقتضيات الأمن الروسي، في ضوء التقارب بين أتاتورك وستالين، دفعت الروس في عام 1921 إلى إبداء تنازلات للأتراك المتحالفين معهم آنذاك ضد القوى الغربية، بأن يحظى الإقليم بحكم ذاتي ضمن السيادة الأذربيجانية. هذا الحل أرضى تركيا التي لا تريد أن تكون للأرمن دولة قوية تهددهم، وخدم الروس الذين وجدوا من المصلحة أن يضعفوا الأرمن والأذربيجانيين بخلافات عرقية وحدودية تسمح لهم بأن يكونوا بيضة القبان، وأصحاب القرار.

انهيار الاتحاد السوفياتي بعد فشل إصلاحات غورباتشوف دفع الأرمن الذين شعروا بخذلان الروس البلاشفة للمطالبة باستعادة أراضٍ لهم من أذربيجان، وانتهزوا ضعف الحكومة الأذربيجانية عسكرياً واقتصادياً، وشنوا حربهم في عام 1990 وسيطروا على 20 بالمائة من أراضي أذربيجان: إقليم ناغورونو كاراباخ والمناطق السبع المحيطة به، وذلك وسط صمت روسي، ودولي، واحتجاج تركي لا قيمة له آنذاك، وتهجير مليون أذربيجاني من تلك المناطق. هذه السيطرة لم تدم؛ لنفس الأسباب التي سمحت لهم بالانتصار، وهي تغير الظروف الإقليمية والدولية، وكذلك السياسات الداخلية في أذربيجان وأرمينيا. داخلياً، أدركت أذربيجان أن حل مشكلة أراضيها يحتاج لعمل عسكري لتحريك النزاع المجمد، فكان قرارها تعزيز قواتها العسكرية، مستفيدة من عائدات النفط والغاز؛ إذ بلغ الإنفاق 2.3 مليار دولار سنوياً، وكان لتركيا دور كبير، في حين أن أرمينيا لم تستطع مقابلة ذلك (أنفقت نصف مليار سنوياً) لأسباب سياسية محلية، وضعف مواردها الطبيعية، علاوة على قناعتها بأن روسيا لن تسمح بذلك. وبالفعل فإن حرب عام 2020 عبرت عن هذا التفاوت، واستعادت بها أذربيجان معظم أراضيها. هذا الانتصار الأذربيجاني ساهمت به تغيرات مهمة، منها حاجة العالم للطاقة والصراع عليها، وتبدلات القوى في منطقة آسيا الوسطى، وبالذات القوقاز، وانشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا؛ هذه الحرب أضعفت روسيا، واضطرتها إلى أن تلجأ إلى دور الموازن ثانيةً، فاكتفت بوقف الحرب بالتعاون مع تركيا، وأرسلت قوات لحفظ السلام، وطمأنت الأرمن المقيمين في منطقة النزاع، لكنها لم تُخرج القوات الأذربيجانية من الأراضي المستعادة؛ بالمقابل استطاعت تركيا أن تعزز نفوذها في أذربيجان، وتتحاور مع موسكو ليكون لها شروطها في وقف القتال. هذا التعاون بين إردوغان وبوتين أعاد للأذهان التعاون بين ستالين وأتاتورك لحفظ مصالحهما. البارز في هذا التطور أن الأرمن القوميين كانوا الخاسر الأكبر؛ لأنهم، على الأرجح، لم ينتبهوا جيداً للتغيرات الدولية، ولم ينتهزوا الفرصة للسير بخطط سلام وضعتها مجموعة «منسك» الأوروبية والأميركية والروسية والتركية، والتي تضمن حكماً ذاتياً للإقليم داخل أذربيجان.

كانت كل المؤشرات تدل على أن أذربيجان قررت استرجاع أراضيها بالقوة، ومن المؤشرات إنفاقها الكبير على التسلح، ومعرفتها بحاجة الغرب الكبيرة للطاقة من أذربيجان، وكذلك الاهتمام الأميركي بخط أنابيب «باكو – جيهان» المار عبر الأراضي الأرمينية، واستثمارات الشركات الغربية في الغاز والنفط في أراضيها، علاوة على تغيير تركيا سياستها الخارجية تجاه الشؤون الداخلية لجمهوريات آسيا الوسطى (القوقاز) وإسقاطها فعلياً اتفاقية موسكو الموقعة عام 1921 التي تتعهد فيها تركيا بعدم التدخل في شؤون جمهوريات تركية في الاتحاد السوفياتي. ويبدو أن رئيس وزراء أرمينيا باشينيان استوعب المتغيرات، وهذا يفسر دعوته أخيراً لإيجاد حلول، وحثه الغرب على منع ما سمَّاه تغيير الواقع بالقوة. هذا التوجه الأرمني سببه القناعة بأن روسيا لم تعد ضامناً حقيقياً للأرمن بعد عجزها أو عدم رغبتها في مواجهة القوات الأذربيجانية في حرب عام 2020، وأن الحل اعتماد سياسة الموازنة بين مصالح روسيا ومصالح أميركا؛ لهذا انفتح باشينيان على الأميركان، وطور العلاقة التي تُوجت بمناورات عسكرية في قلب زنار النفوذ الروسي. هذا لم يؤدِ، كما توقع باشينيان، إلى تحفيز الروس لدعم أرمينيا، بل أبعدهم عنها، وقربهم أكثر من أذربيجان؛ لذلك لم تتحرك قوات السلام الروسية في إقليم كاراباخ لوقف الهجوم الأذربيجاني، بل سقط منها سبعة قتلى، قبلت موسكو بعدها اعتذاراً من أذربيجان، وانتهى الأمر.

هذه المعطيات تؤدي لخلاصة أن بقاء النزاع بين أرمينيا وأذربيجان يمثل خطراً على المصالح الغربية، ومن هنا نفهم اكتفاءهم بتصريحات لا غير، وأن عدم نجدة روسيا لأرمينيا كذلك يعود لتقدير الروس أن أذربيجان قوة اقتصادية، وأن انحيازها للغرب يمثل كارثة جيوسياسية. وبالمقابل وجدت تركيا أن بقاء الخلاف الأرمني – الأذربيجاني لا يخدم مصالحها لسعيها أن تكون معبراً للطاقة، وأن ذلك يستدعي حسماً ينهي النزاع بالقوة. ويبدو كذلك أن باشينيان المكبل بمطالب القوميين داخل أرمينيا وخارجها، استدرك أن الاستماع للمتشددين سيدخله في حرب خاسرة، وأنه من الأفضل الاعتراف بالواقع، والسعي لاتفاق دولي، يسمح لأرمينيا بأن تضمن لسكان الإقليم النازحين عودة بضمانات، وكذلك حصد ثمار السلام، في منطقة تقترب أكثر من أسواق الغرب.

 

أحمد محمود عجاج

استقرار نقدي غير ثابت… إلى أين يتّجه الدولار؟

فيما يشهد سعر صرف الدولار في لبنان استقراراً في الأشهر الماضية على سعر حوالي 89 ألف ليرة، تزامن مع الموسم السياحي وما رافقه من أموال ضخمة دخلت لبنان، تتّجه موازنة 2024 إلى توحيد سعر الصرف، وهو شرط من شروط صندوق النقد الدولي لمنح قرض بحوالي 3 مليارات دولار للبنان. وبينما كان الخبراء يؤكدون أنّ اتجاه الدولار سيكون صعودياً بعد انتهاء موسم الصيف، يظهر الدولار استقراراً في سعره، على عكس هذه التوقعات. ما السبب؟

في حديث سابق له، أكد حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري أنّ “الوقت اليوم هو المناسب لتحرير وتوحيد سعر الصرف، لمعطيات عديدة أبرزها انخفاض الكتلة النقدية من 80 تريليون ليرة إلى 60 تريليون ليرة، وارتفاع الجباية لدى الدولة إلى حدود 20 تريليون ليرة شهرياً، وجزء منها نقدي، وهذا ما يؤدي إلى سحب الليرة أيضاً من السوق. وتحرير سعر الصرف وتوحيده يعني أنّ سعر الدولار المقوَّم على الليرة اللبنانية يُحدَّد بحسب عمليات السوق دون تدخّل من المصرف المركزي”. بالتالي، بمجرد اتخاذ قرار توحيد سعر الصرف، تُلغى جميع أسعار الصرف المتعددة التي فرضتها التعاميم 151 و157 و158 و161.

في هذا الإطار، ترى المتخصّصة في الاقتصاد النقدي الدكتورة ليال منصور في حديثها لـ”النهار” أنّ “الاستقرار النقدي الحالي ناتج عن تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع عبر شراء العملات الأجنبية، إلى جانب عامل آخر له دوره في الاستقرار النقدي وهو الدولرة، فكلّما زادت، تراجع طبع الليرة إذ لم تعد تُستعمل إلا لتمويل القطاع العام”.

أيضاً، مع وجود المغتربين صيفاً وإدخالهم الدولارات، أسهموا في الاستقرار النقدي دون الحاجة الكبرى إلى تدخل مصرف لبنان بنسبة كبيرة لدعم هذا الاستقرار وبالتالي دون تكبّده تكلفة كبرى، لكن طبعاً عادة، تكون هذه التكلفة على حساب توفير الأموال هذه لاستيراد المحروقات والكهرباء وصيانة الطرقات وغيرها. فالاستقرار النقدي يكلّف الدولة كثيراً وتكلفته تراوح بين 500 مليون دولار ومليار دولار شهرياً.

وحتى في بلد غير منهار اقتصادياً وغنيّ، توضح منصور أنّه دائماً ما يكون تثبيت سعر صرف معيّن واستقرار النقد مكلفاً. وتنفي أن يكون لاستقرار النقد حالياً سبب سياسي، وتعطي مثالاً عن عملة الدينار الكويتي الأقوى في العالم، التي تتكبّد الكويت كلفة كبيرة لتثبيتها واستقرارها.

أمّا عن توحيد سعر الصرف وتداعياته، فهو يبدأ من تحرير العملة، أي تعريضها للعرض والطلب، وبذلك، تُلغى جميع أسعار الصرف الأخرى. وتحريرها يعني غياب تدخّل المركزي لتثبيتها واستقرارها. وبرأي منصور، “إقرار أي بند في الموازنة لا يعني وجوباً أنه سيُلتزم به في لبنان، وأصبح موضوع توحيد سعر الصرف في لبنان أمراً على المسؤولين تنفيذه ولو نظرياً لأنّه مطلوب من صندوق النقد الدولي. بالتالي، تداعيات موازنة 2024 محدودة جداً على العملة في بلد كلبنان، ولن تؤدي إلّا إلى بلبلة شفهية”.

فالليرة منهارة أصلاً وليس هناك أية عوامل قد تؤثر سلباً بشكل إضافي على العملة بعد، وفق منصور. فتوحيد سعر الصرف يجعل من سعر الدولار قابلاً لأن يرتفع أو ينخفض، لكنّه يبقى بسعر موحَّد غير متعدّد. لذلك، مع الدولرة الحالية، سيكون تأثير هذا الأمر ضئيلاً جداً.

ولأنّ لبنان أصبح مدولراً بامتياز، قد يكون توحيد سعر الصرف عاملاً إيجابياً، إلّا أنّ منصور لا ترى هذه الإيجابية و”الليرة لن تعود إلى الوراء”. لذا، تصرّ منصور على أنّ “مسار الدولار صعودي بمجرّد وقف تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع”.

على عكس رأي منصور، من جهته، يورد الخبير الاقتصادي الدكتور جاسم عجاقة في حديثه لـ”النهار”، أنّ “الاستقرار النقدي في لبنان هو نتيجة ضغوط سياسية أدّت إلى لجم المضاربين”. وحتى شركات الصيرفة المرخصة لم تعد تشتري الدولار في السوق، أي إنّ المضاربين والشركات توقفوا عن شراء الدولار.

فما عظّم الأزمة على شكلها الحالي، برأي عجاقة، هو المضاربة في السوق السوداء وهذا ما يبرّر استقرار سعر الصرف مع ذهاب هذا العنصر. لكن الأسباب الأساسية التي أدّت إلى الأزمة النقدية لا تزال موجودة، وهي غياب الدولارات الكافية لدى الحكومة لتسديد جميع نفقاتها. فهي بحاجة إلى الدولار لصرف رواتب القطاع العام واستيراد المحروقات وتسديد اشتراكاتها السنوية في المؤسسات الدولية وتسديد الأجور للسلك الديبلوماسي والسفارات والقنصليات. لذلك، بحسب عجاقة، “ما لم تُطبَّق الإصلاحات، فالاستقرار النقدي هذا هو استقرار غير ثابت، ونتوقّع أن تتّجه ضغوط سعر الصرف نحو الارتفاع”.

وبرأيه، “الأزمة ستتعاظم أكثر عندما سنصل إلى آخر السنة دون تمكّن مصرف لبنان من تمويل العجز المقدَّر بـ40 تريليون ليرة، هنا السؤال: ماذا ستفعل الحكومة؟”، يسأل عجاقة.

فرح نصور