صحيح أنّ نظام «الربط الصارم» وتحديد منه الدولرة الشاملة هو خيار يصله البلد المعني يحصل بعد استنزاف فعالية أي نظام آخر قادر على إعادة الاستقرار النقدي، إلا أن الرهان على نجاحه يحتاج سلسلة عناصر:
• المصداقية السياسية
من الممكن أن تستفيد البلدان التي عانى فيها صناع السياسات تاريخياً من الافتقار إلى المصداقية السياسية، وخاصة في المجال النقدي، من الانضباط الذي يفرضه نظام «الربط الصارم» Hard Peg.
نظام نقدي متشدد مثل مجلس النقد أو الدولرة الشاملة يفرض قمة الانضباط للمالية العامة لأنه يمنع اللجوء الى المصرف المركزي وتغطية العجوزات المالية أو تمويل الدين العام عبر طباعة العملة الوطني… فذلك يلتزم صناع السياسات بمصداقية بالاستقرار النقدي والانضباط.
• تجربة التضخم
البلدان التي تتجه نحو الدولرة هي بمعظمها تعاني تجربة تضخّم مفرط يفقد الثقة بالعملة الوطنية.. إنّ دولاً مثل بلغاريا وغيرها اختارت إنشاء مجلس نقد كحل فيما بلدان من الاكوادور اعتمدت الدولرة الشاملة الرسمية بنجاح.
• نظام سعر الصرف الحالي
حتى لو تمكنت دولة ما من الدولرة باستخدام أي نظام لسعر الصرف، فإنّ نجاح مجالس النقد أو أسعار الصرف الثابتة بشكل موثوق تشير إلى أن البلد قد أثبت بالفعل التزامه بعملة مستقرة.
وبالتالي، تكلفة التحول الإضافية من أسعار الصرف الثابتة أو مجالس نقد نحو الدولرة الشاملة أقل من تلك التي يتم الحصول عليها من أنظمة أسعار الصرف الأكثر مرونة.
• تغطية احتياطيات القاعدة النقدية
الحد الأدنى من معايير الدولرة هو أنّ احتياطيات النقد الأجنبي للدولة التي تعتمد على الدولرة يجب أن تغطي على الأقل القاعدة النقدية (أو العملة المتداولة). ومع ذلك، فإنّ بعض البلدان التي قد تكون مرشحة جيدة للدولرة قد لا تحقق هذا الهدف، وفي هذه الحالة قد تفكر في اقتراض الاحتياطيات اللازمة من مصادر رسمية أو دائنين من القطاع الخاص.
• صلابة النظام المصرفي
إنّ وجود نظام مصرفي قوي وتنافسي وخاضع للإشراف والتنظيم الجيد هو شرط مهم لنجاح الدولرة الشاملة. إنّ التواجد الكبير للمصارف الأجنبية في اقتصاد يعتمد على الدولار يمكن أن يساعد لأنه: (أ) سوف يقلّل من مخاطر الأزمات المصرفية؛ (ب) سوف يقدم الدعم الضمني لمقرض الملاذ الأخير.
• مدى الدولرة غير الرسمية
كلما زادت الدرجة الحالية من الدولرة غير الرسمية، زادت فوائد تخفيض قيمة الصرف وزادت الفوائد المحتملة للدولرة الرسمية. وإذا تم استخدام الدولار بالفعل كوحدة حسابية ووسيلة للدفع ومخزن للقيمة، فسيتم تقليل تكاليف التحول إلى الدولرة الرسمية إلى الحد الأدنى. كما انّ دولرة الالتزامات تزيد من فوائد الدولرة الكاملة. وعلى وجه الخصوص، فإنّ البلدان غير القادرة على الاقتراض طويل الأجل بعملاتها الخاصة (بلدان «الخطيئة الأصلية» في المصطلحات الهوسمانية) من الممكن أن تستفيد أيضاً.
• القدرة على العمل كمقرض الملاذ الأخير بعد الدولرة
على الرغم من أنّ الدولة التي تعتمد على الدولار تكون بشكل عام أكثر محدودية في قدرتها على تزويد مُقرضي الملاذ الأخير بالخدمات لنظامها المصرفي، إلّا أن مثل هذه الوظيفة يمكن القيام بها حتى في سياق الدولرة.
أولاً، إذا تجاوزت احتياطيات النقد الأجنبي ما هو مطلوب لتغطية القاعدة النقدية. ثانياً، تستطيع الدولة المعتمدة على الدولار أن تعمل على بناء احتياطيات من السيولة عن طريق الاقتراض من القطاع الخاص (خطوط الائتمان الخاصة الطارئة) أو المؤسسات المالية الدولية.
ثالثاً، يمكن للتغيرات في نسَب متطلبات الاحتياطي أن توفّر المزيد من السيولة للنظام المصرفي.
رابعاً، بموجب اتفاقية تقاسم عائدات رسوم سك العملة، من الممكن استخدام القيمة المخفضة لتدفق مدفوعات رسوم سك العملة في المستقبل كضمان لخطوط الائتمان مع الدائنين من القطاع الخاص و/أو العام.
• تكلفة الإيرادات من فقدان رسوم سك العملات seigneuriage
إنّ الدولرة التي تحدث من دون تقاسم رسوم سك العملات مع الولايات المتحدة ستعني ضمناً خسارة إيرادات هذه الرسوم. وبالنسبة للبلدان حيث تمثّل هذه الرسوم جزءاً كبيراً من الإيرادات العامة، فإنّ مثل هذه الخسارة تخلّف عواقب وخيمة على الميزانية. أما إذا كان البلد أساساً جداً مدولر بأكثر من حوالى 90 % كما هي حال لبنان فهذا يعني أن خسارة سك العملة ضئيلة لأنها تقتصر على 10% من السيولة المتبقية بالعملة الوطنية.
• ملاءة البنوك المركزية في غياب تقاسم رسوم سك العملات
هناك جانب آخر لخسارة رسوم هذا السك يجب مراعاته، وهو كيفية تأثير هذه الخسارة على ملاءة البنك المركزي في الاقتصاد المدولر. القيمة الحالية لرسوم سك العملات المستقبلية هي أحد الأصول للبنوك المركزية التي لا تظهر في الميزانيات العمومية الحالية للبنوك المركزية. ومن المهم المحافظة على وظائف المصارف المركزية (مثل الإشراف/التنظيم، وتأمين الودائع، ومقرض الملاذ الأخير، وتحديد متطلبات الاحتياطي) يجب ضمانها حتى في الاقتصاد المدولر بشكل شامل.
• حالة المالية العامة
كلما انخفض عجز الموازنة وحجم الدين العام، كلما انخفض خطر فشل الدولرة. والواقع أنّ الظروف المالية غير المستدامة من الممكن أن تدفع السّاسة وصنّاع السياسات إلى عكس اتجاه الدولرة، والعودة إلى العملة الوطنية حتى يتمكنوا من استئناف الطباعة (إستعادة القدرة على الوصول إلى ضريبة التضخم). ومن الممكن أن تؤدي المشكلات المالية الخطيرة أيضًا إلى تقويض ثقة الجمهور في السلطات المالية وتؤدي إلى أزمة مالية مرتبطة بأزمة الديون الخارجية (وهي نقطة يتم تناولها بمزيد من التفصيل في القسم التالي). ويمكن أيضا أن تحد من القوة المالية.
• الدين الخارجي واحتياجات التمويل
إنّ رصيد الديون الخارجية للدولة التي تعتمد على الدولرة وخدمة ديونها الخارجية سيؤثران على نجاح الدولرة. وفي حين أنه من الممكن الحد من ظواهر مثل «التوقف المفاجئ» لتدفقات رأس المال والانتكاسات المفاجئة لتدفقاته إذا تخلى بلد ما عن عملته الوطنية، فإنّ احتمال حدوث أزمات مالية مرتبطة بالصرف المفرط لا يمكن استبعادها مع الديون الخارجية.
• القدرة على اتّباع سياسة نقدية لمواجهة التقلبات الدورية بنجاح
إنّ معيار نجاح الدولرة في المساهمة بالاستقرار يَكمن في تقييم ما إذا كانت ستقلّل من القدرة على تهدئة تقلبات الإنتاج. ولذلك فهو معيار مناسب لتقييم الفرصة (إن لم يكن مدى استعداد البلاد) للدولرة. وستعتمد هذه القدرة على عدد من العوامل: درجة الدولرة غير الرسمية للاقتصاد، ومصداقية صانعي السياسات، ودرجة ربط الأجور، ودرجة تأثير أسعار الصرف على الأسعار المحلية.
• إرتباط دورة الأعمال بدورة الأعمال الأميركية
تنخفض الحاجة إلى تعديل سعر الصرف إذا كانت الدورة الاقتصادية لبلد يعتمد على الدولار ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدورة الاقتصادية للولايات المتحدة الأميركية. وتعتمد درجة التزامن الاقتصادي بدورها على عوامل هيكلية، مثل درجة التكامل التجاري والتشابه في هيكل الإنتاج.
• التكامل التجاري مع الولايات المتحدة
إنّ أفضل مرشّح للتبادل التجاري والتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية هو البلد الذي يلجأ إلى الدولرة. إنّ المزيد من التكامل التجاري يعني ضمناً قدراً أعظم من التزامن بين الدورة الاقتصادية للاقتصاد المعتمد على الدولار مع الدولة الرئيسية. علاوة على ذلك، يرتبط التكامل التجاري عمومًا بزيادة النمو المالي ورأس المال.
• التعرّض لصدمات شروط التجارة
تؤدي القابلية للتأثر بصدمات معدلات التبادل التجاري دورًا غامضًا، فمن المُحتمل أن تكون فوائد الدولرة أكبر بالنسبة لتلك الاقتصادات الصغيرة المفتوحة التي تتقبّل الأسعار في الأسواق الدولية. ومن ناحية أخرى، قد تكون هناك حاجة إلى صدمات كبيرة لشروط التبادل التجاري (وسيتم استيعابها بنجاح) من خلال التعديل النقدي إذا كانت الدولة تتمتّع ببعض القوة السوقية عند التصدير (و/أو إذا لم يكتمل انتقال انخفاض الأسعار المحلية).
• الانفتاح على التجارة
إنّ المزيد من الانفتاح على التجارة، قياساً بنسبة الصادرات/الواردات إلى الناتج المحلي الإجمالي، من الممكن أن يؤدي (مع بعض المحاذير) إلى تعزيز حالة الدولرة لعدد من الأسباب. أولاً، الاقتصادات التي تتمتع بحصة كبيرة من التجارة الدولية هي عموماً اقتصادات صغيرة ومفتوحة وليس لديها قدرة تذكر على التأثير على شروط التبادل التجاري. ثانياً، كلما كان الاقتصاد أكثر انفتاحاً، كلما انخفض تأثير انخفاض القيمة الاسمية على الأسعار المحلية، وبالتالي انخفضت الفوائد المترتبة على انخفاض القيمة الاسمية – التعديل النقدي. ثالثاً، كلما زادت حصة القطاع المتداول، زاد التنويع.
• مرونة أسواق العمل
في غياب آلية لسعر الصرف، إنّ الصدمات الخارجية التي تتطلب تغييرا في القيمة الحقيقية للأجور و/أو تنقل العمالة بين القطاعات لن يكون لها آثار دائمة على معدل البطالة إذا كانت أسواق العمل مَرنة بما فيه الكفاية. وقد تحتاج هذه المرونة إلى أن تأخذ شكل مرونة هبوطية في الأجور الاسمية (للحَث على تخفيض الأجور الحقيقية إذا لزم الأمر).
• درجة هجرة اليد العاملة
قد تكون درجة تنقّل العمالة مهمة لأن عددًا من الدول الأميركية لديها أعداد كبيرة من العمّال المهاجرين القانونيين (وغير القانونيين) المؤقتين والدائمين الذين يمكنهم التنقل بين الولايات المتحدة وبلدهم الأصلي.
إنّ انتشار مغتربين للبلد المدولر كلياً يسهم في إدخال تحويلات دولارية إليه تعزز السيولة بالعملة الصعبة.
• درجة حركة رأس المال
من الممكن أن يعوّض الحراك الدولي لرأس المال الحقيقي، جزئياً، عن الافتقار إلى قدرة اليد العاملة على الحركة عبر البلدان. ويمكن تعديل الصدمات التي تتطلب حركة العمالة عبر الحدود جزئياً من خلال تحركات رأس المال الحقيقية.
• العوامل السياسية
يتطلّب نجاح الدولرة الشاملة مستوى عالياً من الدعم الشعبي؛ مساحة واسعة ومفتوحة من النقاش المسبق والشفافية في إعلان آلية وروزنامة الانتقال التدريجي اليها.
في الواقع، يصعب أن يكون الدعم السياسي للدولرة واسع النطاق علناً نظراً لحرص القوى السياسية على إظهار خطاب السياسة النقدية والتمسّك بالعملة الوطنية. لذا، تتجّه البلدان المماثلة الى ترك السوق يفرض الدولرة شبه الشاملة بشكل غير رسمي ويصبح الإقرار بها نوعاً من مواكبة مطلب شعبي لتسهيل التعامل في الاقتصاد…
يبقى القول، انّ نظام «الربط الصارم» إنْ كان عبر «مجلس نقد» أو «دولرة شاملة» يصبح أحياناً ضرورة ملحّة للاستقرار النقدي، إلا انه ليس عصا سحريا بل انّ نجاحه يتطلّب سلة شروط إصلاحية مواكبة مثلما سبق ذكره. في لبنان، اختيار نظام سعر صرف جديد باتَ حاجة ملحّة كما أنّ الاستعداد الى مواكبته بالاصلاحات الضرورية التي من شأنها السماح بنجاحه وفعاليته أمر أكثر إلحاحاً…