ثلاث قضايا على المستوى النقدي والمالي، تستأثر بالاهتمام الشعبي في هذه الفترة، الاولى تتعلق بالتعميم 151 الذي انتهى مفعوله في نهاية 2023، ولم يتمّ تجديده. الثانية تتعلّق بقرب موعد بدء عمل منصّة «بلومبرغ» وتأثير ذلك على سعر الصرف. والقضية الثالثة، اعتماد سعر منصّة صيرفة الوارد في موازنة 2024، كسعر رسمي موحّد للدولار في كل المعاملات.
منذ اندلاع أزمة الانهيار رسمياً في آذار 2020، مع إعلان الدولة اللبنانية التوقف عن دفع سندات دينها بالدولار (يوروبوند)، كان يُفترض ان تتولّى الدولة زمام الامور، وأن تباشر الإجراءات الآنية المطلوب اتخاذها في حالات من هذا النوع، لكنها لم تفعل وتقاعست، وتركت للمصرف المركزي ان يتصرّف بما يراه مناسباً. وهكذا باشر مصرف لبنان في حينه، اتخاذ الاجراءات التي اعتبر انّها ضرورية لتسيير الامور بالتي هي أحسن، بانتظار خطة الدولة للخروج من الأزمة. وجاءت معظم الإجراءات على شكل تعاميم، او حتى قرارات كانت تتبلّغها المصارف، وتعمل بموجبها.
ومن ضمن هذه التعاميم، صدر التعميم 151 لتنظيم سحب الاموال من الودائع الدولارية في المصارف. وكان الهدف المُعلن منه، تسهيل امور الناس. وللتوضيح فإنّ المركزي هو من قرّر ان يكون السحب بالليرة وليس بالدولار، وهو من حدّد سعر السحب.
اليوم، هناك نقاش في احتمال إصدار تعميم بديل. ويبدو انّ مصرف لبنان يريد ان يتمّ السحب بالدولار، وفق سقف شهري لا يتجاوز الـ150 دولاراً من كل حساب. لكن الإشكالية في هذا الموضوع، تكمن في النقاط التالية:
اولاً- أي قرار بتنظيم سحب الدولارات من دون وجود أفق لخطةٍ توضح المسار المالي، قد يعني ببساطة الاستمرار في النزف وصولاً الى مرحلة نضوب الاموال، وفقدان الامل بأية خطة لضمان حقوق المودعين، او حتى على الاقل صغار المودعين.
ثانياً- انّ تعميم السحب على كل الحسابات المصرفية، المؤهل منها وغير المؤهل، يعني ببساطة انّ كل الذين اشتروا شيكات مصرفية بـ11% من سعرها، سوف يجنون ارباحاً غير مستحقة، مقابل خسائر غير مبرّرة سيتعرّض لها المودع الذي باع الشيك. وهنا لا بدّ من الاشارة، الى انّ البعض كان ينصح في الفترة الاخيرة بشراء شيكات مصرفية، مُلمّحاً الى انّ قراراً ما سيصدُر وسيسمح لهم بتحقيق أرباح كبيرة.
ثالثاً- اصبح اي اجراءٍ ترقيعي خارج إطار الخطة الشاملة، لا يخلو من الاضرار الجانبية الجسيمة، وبالتالي، اذا لم تواكب «الدولة» الإجراءات الاستثنائية الناتجة اصلاً من استمرار غياب دورها، لن تكون النتائج ايجابية في المحصلة.
في موضوع منصّة «بلومبرغ»، لا شيء استثنائياً، ما دامت المنصّة مجرد وسيلة لتنظيم العرض والطلب. ويعمل المركزي حالياً على تجاوز العرقلة التقنية التي ارتبطت بتداعيات حرب غزة. وفي كل الأحوال، لن تكون المنصّة مسؤولة عن ارتفاع او انخفاض سعر الصرف، بل انّها قد تساهم في مزيد من الشفافية في السوق المالي، وقد تخفّف قليلاً من مخاطر الاقتصاد النقدي (cash economy).
في موضوع تغيير سعر الصرف الرسمي للدولار، واعتماد دولار منصّة صيرفة، اصبح واضحاً انّ مصرف لبنان ينتظر صدور موازنة العام 2024، لكي يتبنّى واقع تغيير وتوحيد سعر الصرف. وهذا الامر مطلوب من قِبل صندوق النقد الدولي. لكن الإشكالية هنا تكمن في زيادة الضغط المعيشي على المواطنين، بسبب ارتباط بعض الضرائب والرسوم بسعر الصرف الرسمي. بالاضافة الى ذلك، لا بدّ من اجراءات تمنع حصول ثغرات في ميزانيات الشركات والمؤسسات المالية. وهناك من يسأل عن جدوى رفع سعر الصرف في هذا التوقيت، إذا كان الاتفاق مع صندوق النقد مؤجّلاً، بما يعني انّ الخطة الاقتصادية الشاملة لن ترى النور قريباً. وبالتالي، ليس مفيداً ان تتعرّض المؤسسات لأي خلل بنيوي يعيق استمرارها.
في المحصّلة، لا تكمن المشكلة في الإجراءات التي قد يتخذها مصرف لبنان، بل في تقاعُس الدولة عن القيام بدورها. وبعد 4 سنوات على الانهيار، لم يعد ممكناً اتخاذ اجراءات مجتزأة، بل صار المطلوب صدور سلّة متكاملة تشمل كل الخطوات التي ينبغي ان تواكب الخطة الشاملة. وبعد تقرير «الفاريز» الجنائي، وبعد الدراسة الصادرة عن جامعة «هارفرد»، وبعد البيان الاخير لمصرف لبنان في شأن تبيان وضعه المالي حتى نهاية العام 2023، لم يعد متاحاً صدور اية خطة لا توضح فيها الدولة قرارها في شأن كيفية التعاطي مع ديونها ومع المستحقات المتراكمة عليها لمصرف لبنان، لأنّه في ضوء هذا القرار يمكن تحديد مصير الودائع والمودعين، ومصير الاقتصاد في السنوات المقبلة.
أنطوان فرح