سوق العمل السعودية ستظل تشهد خللاً فترات طويلة جداً، رغم كل التحسن الذي طرأ عليها في السنوات العشرة الماضية.
والسبب في هذا بسيط وهو أن الخلل هيكلي، وسيظل هيكلياً لعدم قدرة أي وزارة لليوم والغد على تحرير سوق العمل، أي بمعنى أن العوامل التي تحدد العرض والطلب في سوق العمل لا تخضع لقواعد السوق الحرة، ولا تحددها الأجور؛ لأن الأجور نفسها اصطناعية أو تواجه خللاً.
ما أهمية كل هذه المقدمة النظرية وتأثيرها في واقع حياتنا والسوق؟! سأعطي لكم قصتين تختصران كثيراً مما أريد قوله، ولكن قبل سرد هاتين القصتين، لا بد من الاعتراف بأننا تخلصنا من كثير من عيوب سوق العمل، وهناك كم لا يحصى من المبادرات التي جرى إطلاقها لتحقيق هذا، ومع ذلك لا تزال هناك تحديات، تلخصهما القصتان.
القصة الأولى لشاب عاد إلى السعودية قبيل جائحة «كوفيد» بعد أن أمضى 10 سنوات في الدراسة خارج المملكة ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، تمكن خلالها من دراسة البكالوريوس والماجستير في مجال تحتاج إليه سوق العمل.
ولكن ما كان غائباً عن هذا الشاب هو أن الخبرة لسوق العمل أهم من الشهادات الجامعية، ولهذا اضطر للعمل في وظائف لا علاقة لها بتخصصه، وتَنَقَّلَ بين مجموعة منها لأن فرص العمل كانت محدودة في مدينته والمرتبات ليست عالية.
في تنقلاته هذه لم يلق هذا الشاب بالاً لموضوع كيف ستكون حال وشكل سيرته الذاتية، حيث كل ما كان يهدف له هو الحصول على راتب أعلى، ولم يكن يفكر في بناء مسيرة مهنية.
ثم استسلم للواقع واكتشف أن بقاءه في مدينته لن يساعده على العمل في تخصصه وبراتب مُرضٍ. ولهذا اتجه للرياض، وهناك دخل سوق عمل أكثر احترافية، وبناءً على شهادته وخبرته العملية حصل على وظيفة براتب معقول لمبتدئ، ولكنه ليس معقولاً لشخص في عمره، إذ إنه دخل لسوق العمل على كبر بسبب سنوات دراسته الطويلة.
ولا يزال هذا الشاب يعيش صراعاً نفسياً، بين دخله وعمره ومقارنة نفسه بالأشخاص في عمره الذين يتمتعون بوظيفة بدخل أفضل منه، وبين حرصه على بناء مسيرته المهنية في تخصصه الذي يحبه. ولا يوجد أمام هذا الشاب غير الصبر والقبول براتب مناسب لشخص في بداية العشرين وليس في الثلاثينات، وفي مدينة مثل الرياض حيث تأكل الإيجارات جزءاً كبيراً من الأجور.
القصة الثانية، هي لفتاة تخرجت في قسم الترجمة من جامعة سعودية، وعملت مترجمة في مستشفى حكومي، ومن ثم سكرتيرة في نفس المستشفى، وبعد فترة بسيطة من الزمن نما إلى علمها حاجة شركة حكومية جديدة لسكرتيرة، ومن حظها أن المدير من جنسية غربية، ولهذا كان سعيداً بتوظيف فتاة سعودية خصوصاً أن الشركة عند التأسيس كانت تعمل في سرية ولا يوجد متقدمون كثر للوظيفة.
حاول هذا المدير الغربي تعليم هذه الفتاة العمل بشكل صحيح، ولكنها لم تكن تريد الاستمرار في هذه الوظيفة، ولهذا أقنعت مديراً سعودياً آخر «من نفس منطقتها» من نقلها عنده في إدارته لتعمل شيئاً جديداً لم تعمله من قبل، ويحتاج لتدريب وخبرة، ولكن دعم المدير السعودي ساعدها لتكون في هذا القسم رغم قلة خبرتها.
وبعد الجائحة، تمكنت هذه الفتاة التي كانت تنقصها الخبرة والمعرفة وكثير من المهارات الأساسية، من الانتقال لهيئة حكومية لتعمل في نفس مجال وظيفتها الأخيرة، وساعدها في ذلك اسم الشركة الحكومية التي كانت تعمل بها.
وفي سرعة الضوء، ترقت هذه الفتاة بصورة لا يتخيلها عقل بين المراتب المختلفة في هذه الهيئة ولتصبح تنفيذية. والناظر لحسابها في «لينكد إن» قد يصاب بالحيرة حول سرعة الترقيات.
وقد يقول بعض المتفائلين والداعمين إن هذه الفتاة قد تكون ذات موهبة لم يكتشفها أحد أو لم تجد دعماً في أماكن عملها السابقة، ولكن المنطق يقول إن وصول الشخص لتنفيذي يتطلب حداً أدنى من المهارات والشهادات التي من شبه المستحيل الحصول عليها في عامين فقط بعد انتهاء الجائحة.
تعد هذه الفتاة نموذجاً للخلل في التوظيف في الهيئات الحكومية، حيث يجري استقطاب الشباب من شركات حكومية أخرى وإعطاؤهم معاشات عالية، وغالبيتهم يفتقرون للخبرة والمهارات اللازمة. وهنا تتضخم الأجور بلا منطق، ويصيب سوق العمل خلل من نوع آخر، حيث يحصل أشخاص بلا خبرة في الهيئات على مرتبات لا يحصل عليها تنفيذيون في شركات القطاع الخاص، وبالتالي أصبح القطاع الخاص باحة وفناءً خلفياً للهيئات والشركات الحكومية، وهذا من المستحيل أن يساعد على توفير يد عاملة مناسبة للقطاع الخاص. هذه نماذج لخلل سوق العمل، وهناك كثير من النماذج الأخرى أحتاج لمقالات كثيرة لحصرها وذكرها، حيث يدخل أشخاص غير مناسبين للسوق، وتتضخم مرتباتهم بسبب ظروف لا تخضع لآليات تحديد الأجور في أسواق ناضجة في الغرب، أو أن يحول النظام الشباب إلى طلاب لسنوات طويلة، ويخرجون من الجامعات بلا خبرة؛ وفي حالات كثيرة بلا مهارات أساسية، وتبدأ رحلتهم في سوق العمل في سن متأخرة.
ومهما حاولنا إصلاح سوق العمل فلن نستطيع، لأن هذه التدخلات تجعل آليات السوق لا تعمل، وبالتالي تصبح الأجور غير طبيعية ومصطنعة.
وائل مهدي