رأس المال الجريء… 2024 سنة تحدٍّ

في العام الماضي – ولأول مرة – تجاوزت صفقات رأس المال الجريء في السعودية، تلك التي في الإمارات، لتكون بذلك السعودية الأولى في منطقة الشرق الأوسط، بحسب بيانات شركة «ماغنت».

وبطبيعة الحال كانت هناك حالة فرح في الأوساط الحكومية بهذه الأرقام، التي تم الحديث عنها بأنها إنجاز تاريخي، وهذه أحد عيوب لغة الأرقام؛ حيث في بعض الأحيان لا يمكن أن تعكس الأرقام الكبيرة الصورة الحقيقية.

إذا ما نظرنا لتقرير «ماغنت»، فإن ما جعل السعودية تتفوق في صفقات رأس المال الجريء العام الماضي، هو التمويل الضخم الذي حصلت عليه شركتا الدفع الآجل، تمارا وتابي؛ حيث حصلت الأولى على تمويل قدره 340 مليون دولار في ديسمبر (كانون الأول) في جولة التمويل «ج»، بينما حصلت الأخرى على تمويل قدره 250 مليون دولار في جولة التمويل «د» في الشهر نفسه.

أي أن ما يقارب من نصف التمويل من رأس المال الجريء في السعودية العام الماضي البالغ 1.3 مليار دولار ذهب لهاتين الشركتين. واستحوذت هاتان الشركتان على غالبية التمويل الذي ذهب لقطاع التقنية المالية البالغ قدره 708 ملايين دولار.

تركُّز التمويل في هاتين الشركتين هو ما يجعلني أفكر كثيراً في حقيقة المشهد وأتمهل قبل ألا أنضم إلى من ينادون بالإنجاز ويصفونه بالتاريخي.

في نظري نحتاج لعام آخر من الريادة حتى نعده إنجازاً تاريخياً، وكل ما يمكن أن يوصف به عام 2023 هو أنه شهد تمويلات غير مسبوقة.

من ناحية أخرى، أصبحت تابي مؤخراً «سعودية» بعدما وقعت اتفاقية نقل مقرها من الإمارات إلى السعودية العام الماضي، ولو أن هذا لم يحدث لما كان من الممكن عدّ تمويلات تابي جزءاً من استثمارات السعودية.

الأمر الآخر، هو أن تابي وصلت إلى نهاية الطريق للجولات الاستثمارية بعدما حصلت على تمويل من جولة «د»، بينما لم يتبق لتمارا العديد من الجولات بعد وصولها إلى «ج»، وبالتالي قد لا نرى كثيراً من الجولات في 2024.

وأخيراً، فإن غالبية التمويلات ذهبت لشركات ذات طبيعة مشابهة وشبه ناضجة، وعما قريب ستخرج من قائمة الشركات الناشئة وتدخل نادي الشركات الناضجة. ونشاط هذه الشركات يجعلنا نفكر في أن التمويل يذهب للاستثمار في الديون وليس في الملكية؛ حيث إن هذه الشركات تحتاج إلى تمويل لكي تقرض المستهلكين.

وبعيداً عن هذه التحديات، لا نزال نحتاج لمزيد من البيانات والمعلومات حول العوائد للمستثمرين، وحالات التخارج – من وجهة نظري – هي قدرة المستثمرين على التخارج من هذه الشركات وطرحها في سوق الأسهم، وما زلنا بعيدين عن هذا الإنجاز الحقيقي.

وكتابة شيكات لشركات لقرض أموال ليس إنجازاً في نظري إذا ما كنا نتحدث عن رأسمال جريء؛ بل القدرة على تحويل الشركات الناشئة لمساهمة عامة وتخارج المستثمرين الأصليين منها.

كما أن الإنجاز الحقيقي هو عندما نأخذ شركات تقنية ونحولها لمليارية ونطرحها في الاكتتاب. لا أعرف كثيراً عن شركات التقنية التي أصبحت مطمعاً للمستثمرين. وهناك القليل منها الذي خرج من رحم جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، ومن أبرزها شركة مزارع البحر الأحمر.

وهناك شركة أخرى تابعة لقطاع التقنية، وهي شركة تطوير البحث والمنتجات (آر بي دي سي) التي لم تتمكن من تحويل عدد كبير من براءات الاختراع إلى شركات، والأسباب لا تبدو واضحة لأنها شركة حكومية وبالتالي لا تشارك معلوماتها.

في نظري أن نجاح قطاع رأس المال الجريء يتطلب العديد من المؤشرات وليس عدد الصفقات أو حجمها، ويتطلب أن نفهم انعكاس كل هذا على النظام الآيكولوجي للشركات الناشئة والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، ونحتاج لاستمرارية في التمويلات وتنوعها وقدرة المستثمرين على التخارج ووضوح حول طرح الشركات للاكتتاب العام. ولا يمكن النظر لعام كان صعباً على صناعة رأس المال الجريء في المنطقة على أنه سنة طبيعية. وهذا يذكرني بالعام الذي شهد بيع أصول لأرامكو وكيف تسببت تلك الصفقة المستقلة في رفع أرقام الاستثمار الأجنبي لمستوى قياسي.

كما أن هناك العديد من الشركات التي لم تعبر مرحلة «وادي الموت» لسبب أو لآخر، وهناك مشروعات واعدة لم تحصل على تمويل كاف وماتت من دون أن يعرف أحد عنها. حياة هذه المشروعات يجب أن تكون جزءاً من الإنجاز.

في النهاية ما لم أر العديد من المؤشرات المستدامة، فسأعد كل أرقام «ماغنت» مجرد أرقام غير مسبوقة أو ارتفاعات تاريخية، ولكن لن أضع عليها شعار «الإنجاز».

 

وائل مهدي

أسعار النفط في ظل حروب الشرق الأوسط العشر

نشبت نحو 10 معارك في الشرق الأوسط منذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فانطلقت معركة غزة في اليوم التالي، واندلعت منذ 8 أكتوبر حرب ما بين «حزب الله» والجيش الإسرائيلي، معظمها على طرفي حدود البلدين. وأطلقت حركة «حماس» عشرات الصواريخ على تل أبيب. كما قصفت الميليشيات الموالية لإيران قواعد عسكرية أميركية في العراق وشرق سوريا، بالإضافة إلى هجمات أميركية على قواعد الميليشيات الموالية لإيران في شرق سوريا، في الوقت نفسه الذي تهاجم فيه إسرائيل مطاري دمشق وحلب باستمرار. وأطلق «الحرس الثوري» الإيراني صواريخ باليستية على منازل في إربيل، وبلوشستان، وباكستان، في يوم واحد ولأسباب «أمنية» داخلية أو خارجية. وهناك حروب أخرى سبقت «طوفان الأقصى» ولا تزال جارية: الاحتلال التركي لشمال سوريا، والصراع في ليبيا، والحرب الداخلية في السودان.

وقد جرى منذ أول قصف للحوثيين في البحر الأحمر في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، تسجيل أكثر من 30 هجوماً على البواخر التجارية والبوارج العسكرية والناقلات النفطية، مهددين فيها الملاحة التجارية والنفطية في مضيق باب المندب وجنوب البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب. وقد شكلت هذه الهجمات تحدياً كبيراً للأسطولين الأميركي والبريطاني في المنطقة. ورغم أن البيانات الحوثية الأولى ذكرت أنها تستهدف سفناً إسرائيلية أو تلك المتجهة والقادمة من وإلى إسرائيل، فقد جرى اعتراض ناقلة عراقية تحمل نفطاً عراقياً في بحر العرب، ما يعني توسيع أهداف الحملة رداً على الحرب في غزة. هذا بالإضافة إلى توسيع رقعة التهديدات لتشمل بحر العرب، ولاحقاً مهاجمة سفينة تجارية تبحر في المحيط الهندي.

ردت الطائرات الأميركية والبريطانية على هذه الهجمات، مستهدفة مواقع محددة للحوثيين، متجنبة إصابة أعداد كبيرة من المدنيين في محافظات اليمن الخمس التي قُصفت. وقد شكّلت هذه الهجمات توجيه رسالة إلى إيران وحلفائها في المنطقة حول «قواعد الحرب» هذه.

وقد استطاعت إيران، مصدر الصواريخ والمعدات اللوجيستية للحوثيين، تحديد مواقع البواخر والناقلات المستهدفة، وأن تستدرج الولايات المتحدة إلى معركة مهمة مع فصيل عربي موالٍ لها يعمل على أرض عربية، بعيداً عن الأراضي الإيرانية.

هذا ما يشكل جزءاً من المحاولة الإيرانية في تغيير ميزان القوى بين طهران وواشنطن في معاركها هذه، قوى كبرى وقوى إقليمية مهمة، دون المنازلة المباشرة بينهما، وخصوصاً بعيداً عن أراضي الثانية، تمهيداً لخلق وضع جيواستراتيجي جديد مستقبلاً تستطيع من خلاله إيران بعد استعادة قوتها اقتصادياً وعسكرياً في بسط نفوذها في شرق أوسط جديد.

أدت أزمة البحر الأحمر إلى تهديد أسواق الطاقة العالمية، وتهديد استقرار تجارة النفط العالمية، وازدادت المخاوف من الآثار السلبية المترتبة على اضطرار استعمال الطريق البحرية عبر رأس الرجاء الصالح المحاذي لجنوب أفريقيا إلى إثارة مخاوف أخرى من عدم توافر الإمكانات اللازمة في موانئ شرق وغرب أفريقيا في تزويد الأعداد الكبيرة من البواخر بالوقود، ناهيك عن توفير الخدمات الفنية اللازمة في هذه الرحلة الطويلة التي تزيد ملاحة هذه السفن أسبوعين تقريباً على الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس.

والمتوقع أن تزداد تكاليف هذه الرحلات الأطول، بإضافة زيادة قيمة بوالص تأمين الشحن البحري، حيث زادت قيمة إحدى البوالص 300 في المائة بوصفها بوليصة تأمين في ساحة حرب، الأمر الذي ستترتب عليه زيادة في أسعار البضائع والوقود لاحقاً، ما سيؤدي بدوره إلى ارتفاع معدلات التضخم، وإلحاق أضرار بسلسلة الإمدادات الاقتصادية العالمية تدريجياً.

ومن اللافت للنظر، أن أسعار النفط الخام قد حافظت على استقرارها طوال هذه الفترة؛ فقد تراوحت أسعار خام «برنت» في نطاق ضيق ما بين 75 – 79 دولاراً، متراوحاً نحو 2 في المائة. ويعود السبب الرئيسي لذلك إلى توافر إمدادات وتخزينات وافية، دون أي ظاهرة لنقص في الإمدادات.

والمهم في هذا المجال أيضاً، هو أن التأخير الحاصل في الشحن البحري عبر رأس الرجاء الصالح، لن تتبين انعكاساته إلا بعد أسابيع معدودة من الأزمة، وذلك عندما تنزل البضاعة الجديدة في الأسواق.

في الحالة النفطية، تلجأ الدول المنتجة والشركات النفطية إلى تبني خطط الطوارئ المتوافرة لهذه الحالات، كاللجوء إلى السحب من المخازن، أو زيادة الصادرات.

ومن الملاحظ أنه مع ازدياد أهمية الأسواق النفطية الآسيوية وعدم تأثر شحناتها بالإبحار عبر مضيق باب المندب، فإن أسعار النفط في آسيا قد حافظت على معدلاتها، بل انخفضت خلال الأسابيع الأخيرة. فأسعار الغاز المسال في الأسواق الآسيوية قد انخفضت إلى مستوى متدنٍّ لها، أقل من 10 دولارات لمليون وحدة حرارية بريطانية، وهو أقل سعر للغاز المسال في الأسواق الآسيوية منذ 8 شهور. الأمر الذي يعني أن المناخ المعتدل في آسيا والمخزون الوافي هناك للغاز قد لعبا دوراً مهماً للتغطية على الأزمات البحرية الأخيرة.

وانخفضت أيضاً أسعار النفط الخام في الأسواق الآسيوية متأرجحة ما بين ضغوط الاضطرابات الملاحية من جهة وتحسن النمو الاقتصادي في الصين ودول أخرى. كما أخذت الأسواق في الحسبان أن الحوادث الأمنية الأخيرة لم ينجم عنها أي إغلاق للإنتاج في المنطقة؛ فالانقطاعان الرئيسيان للإنتاج في العالم مؤخراً هما في ليبيا، وحقول ولاية «نورث داكوتا» الأميركية، هذه الولاية التي تشكل ثالث أكبر إنتاج نفطي في الولايات المتحدة، حيث توقف إنتاج نحو 700 ألف برميل يومياً جله من النفط الصخري، أو أكثر من نصف إنتاج الولاية.

وليد خدوري