حرب في الخفاء.. هل يستطيع اليوان الصيني مزاحمة الدولار؟

في صيف عام 2014، وبعد عام واحد من صعود “شي جين بينغ” إلى الحُكم في الصين، بدأت الصين في التجاوب مع مطالبات أميركية بتقليص الحزب الشيوعي الصيني قبضته على اليوان الصيني (1)، إذ طالما رأى الأميركيون، ومن ورائهم البنك الدولي، أن قيمة العملة الصينية لا تتناسب وحجم ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأخطر من ذلك أن الصينيين يتعمّدون خفض قيمة عملتهم لتعزيز صادراتهم، إذ تجذب المنتجات الرخيصة أسواقا شتى، ما يفتح آفاقا كبرى للتصدير. وقد جعل كل ذلك الصين في النهاية أشبه بمصنع العالم، وبينما تنفي الصين تلك الاتهامات، يرى اقتصاديون أن تلك السياسة تستند إلى الخوف الذي تستشعره الصين من التجربة اليابانية (2) في الثمانينيات، حين أعاق الارتفاع الحاد في سعر اليِن الياباني اقتصاد بلاده، وهو درس وضعوه نصب أعينهم.

ومع ذلك، كانت ثمة مصلحة مشتركة للقادة الأميركيين والصينيين في التجاوب مع بعضهم بعضا، إذ أراد “شي جين بينغ” اعتماد “اليوان” عملة احتياط دولية مثل الدولار واليورو والجنيه الإسترليني والين الياباني، وكان ذلك ضمن إستراتيجية صينية طويلة تهدف إلى استخدام اليوان عالميا، والتحرر ببطء من سطوة الدولار على الاقتصاد العالمي. وقد وافقت الولايات المتحدة عام 2016 على ضم اليوان الصيني (3) إلى نادي النخبة للعملات الاحتياطية لصندوق النقد الدولي، مُقدرة أن الصين مهما حصدت من تقدم، فإن طريقها ليس مُمهَّدا تماما لإزاحة الدولار، لأن مساعيها تصطدم بعدة حقائق ثابتة على الأرض، وأزمات هيكلية في اقتصادها، والأهم طرف قوي يمتلك القدرة والرغبة والاستعداد للحفاظ على هيمنة “عُملته”، مهما تكلف الأمر.

 

اليوان والدولار وحرب أوكرانيا

لكن الأمور لا تدوم على حالها، وهناك الكثير من المياه جرت في شرايين الاقتصاد العالمي منذ ذلك الحين. ففي الساعة التي عبرت فيها الدبابات الروسية نحو أوكرانيا، بهدف إعادة عقارب الساعة للوراء، وإعادة أوروبا الشرقية من جديد إلى حظيرة روسيا منذ فقدانها بعد نهاية الحرب الباردة، كانت مدافع الدولار الأميركي تدوي بلا هوادة مستهدفة الاقتصاد الروسي بسيل من العقوبات بهدف إجبار موسكو على التراجع. ورغم فشل العقوبات الأميركية في وقف التحرك العسكري الروسي، وبينما كان العالم أجمع يدفع ثمن تلك الحرب، استفادت واشنطن دون غيرها رغم معاناتها من ارتفاع معدلات التضخم. فبخلاف مبيعات السلاح التي ارتفعت مدفوعة بالقتال (4)، وأرباحها من بيع النفط والغاز، وصل الدولار الأميركي إلى أعلى مستوى له منذ 20 عاما، على عكس اليورو الذي فقد 6% من قيمته (5).

لكن الولايات المتحدة كانت ترقب بشيء من القلق والتوجس ما حدث لليوان الصيني بسبب التبعات المباشرة لتلك الحرب، وفي نهاية عام 2022 زاد نصيب العملة الصينية في تمويل التجارة الدولية بأكثر من الضِّعْف بواقع 4.5% بعد أن كان 2%، وهي الزيادة التي اقتطعتها الصين من حصة الدولار التي انخفضت إلى 84.3% (6). ورغم أن حضور اليوان لا يُذكر أمام استحواذ الدولار، فإن ذلك كان جرس إنذار لواشنطن حول الخطط الصينية. ومن المفارقات أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي رفع أسعار الفائدة مرارا، في الفترة نفسها التي خفض فيها البنك الشعبي الصيني سعر الفائدة الرئيسي القياسي للقروض مرتين، ما يعني أن ارتفاع تكلفة التمويل بالدولار جعل عملة الصين أكثر جاذبية نسبيا لتمويل التجارة، لأن اليوان بات أرخص وأقوى.

لقد كان ارتفاع الدولار في صالح الولايات المتحدة، لكنه أضر بالعالم أجمع، وسبَّب اضطرابا اقتصاديا في الدول الغنية والفقيرة على السواء، لأن تسارع الدولار يساعد في تغذية التضخم الحاد، وبصفته العملة الأساسية للتجارة والمعاملات العالمية فإن أي زيادة فيه تعني إضعاف العملات المواجهة له، ما يؤدي في النهاية إلى ارتفاع الأسعار والتضخم (7). وفي المقابل كانت الرياح تجري كما تشتهي الصين، فمع استياء عدد من الدول من الضغوط المتزايدة للدولار، ومع توسع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في فرض عقوبات على روسيا، بما في ذلك قطع وصولها إلى نظام المدفوعات العالمي القائم على الدولار المعروف اختصارا باسم “سويفت” (swift)، وجد اليوان الصيني ضالّته في الصعود، واستخدمته موسكو عُملة بديلة في تجارتها للتخفيف من وطأة العقوبات، وهي تجربة راقبتها عدة بلدان أخرى، ورأتها فرصة لتقليل اعتمادها على الدولار لأسباب سياسية واقتصادية (8).

 

لماذا يهتز الدولار رغم قوته؟

بعد قرابة عامين على حرب أوكرانيا، التي لا تحمل في طياتها حتى الآن أي آفاق للحل القريب، كانت إحدى القناعات التي تشكلت عند الكثيرين هي ضرورة تقليل الاعتماد على الدولار، وتنويع البنية التحتية المالية لحماية مصالح الدول النامية السياسية والاقتصادية. وقد عزز تلك القناعة حقيقة أن موجة العقوبات المالية التي قادتها الولايات المتحدة ضد موسكو، وشملت تجميد نحو نصف احتياطيات روسيا من العملات الأجنبية، عزز المخاوف من أن الولايات المتحدة يمكن أن تستخدم قوة عُملتها لاستهداف آخرين بالطريقة القاسية نفسها التي واجهتها روسيا (9).

ورغم أن من غير المرجح أن تتغير هيمنة الدولار الذي حكم العالم المالي طيلة عقود في المستقبل القريب، وسيظل العملة الرئيسية للتجارة والمعاملات الدولية، وكذلك الاحتياطات النقدية، فإن الهيمنة توشك ألا تكون كما كانت في الماضي القريب. ووفقا لصندوق النقد الدولي، انخفضت حصة الدولار من احتياطيات النقد الأجنبي للبنوك المركزية، وبلغت 59% عام 2022، بانخفاض أكثر من 70% عام 1999، وفق بيانات عام 2022 (10).

لقد مهدت حرب أوكرانيا الأجواء لعدة دول لتقليل اعتمادها المتزايد على الدولار، واللجوء لاختبار اليوان الصيني، جزءا من محاولة الصين تدويل عملتها. وكانت البداية من دول البريكس، حيث أصبح البنك المركزي في البرازيل (أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية) يدعم تصدر اليوان بوصفه ثاني أكثر عملة احتياطية تمهيدا لتقليص الدولار (11). لقد كانت بنغلاديش في طريق مسدود حين عجزت عن دفع تكاليف مشروع محطة نووية لروسيا، فلجأت إلى اليوان، وبرَّرت للولايات المتحدة أن قرارها جاء بدافع المصلحة الوطنية (12)، وهي الدوافع ذاتها التي دفعت الأرجنتين لتسديد تكاليف وارداتها من الصين باليوان بدلا من الدولار، كما قررت سداد جزء من ديونها لدى صندوق النقد الدولي التي تبلغ قيمتها 2.7 مليار دولار بالعملة الصينية (13)، وسبقت إيران كل تلك الدول منذ سنوات، حين استغلت اليوان للفكاك من قبضة العقوبات الأميركية.

لم يقتصر الأمر على تلك الدول، لكنه وصل إلى حلفاء الولايات المتحدة في قلب أوروبا، فالرئيس الفرنسي سبق له وأطلق دعوة علنية في الفضاء بضرورة تقليل الاعتماد على الدولار (14)، ولم تكن تلك التصريحات مجرد كلمات عابرة، إذ اتخذت فرنسا خطوات فعلية، فأبرمت أول تداول للغاز الطبيعي المُسال في البورصة باليوان، ثم حدثت المفاجأة بعدها، وأبدت السعودية انفتاحها على تسعير جزء من نفطها باليوان الصيني، وتبعتها الإمارات التي سعَّرت بالفعل جزءا من صادراتها من الغاز المسال بالعملة الصينية، في وقت اعتمد العراق فيه كل تعاملاته مع الصين بعملتها بدلا من الدولار.

 

هل تعوق الصين نفسها؟

ولكن رغم النجاحات التي حققتها الصين على صعيد التحرر من هيمنة الدولار، فإن مسيرة بكين تصطدم بعدة عقبات وحقائق على الأرض. فعلى عكس الدولار المتاح عالميا للاستثمار والتجارة، يواجه اليوان قبضة مشددة من قِبل الحزب الشيوعي الصيني الذي يفرض رقابة صارمة على الأموال القادمة من وإلى البلاد، وهو ما يعوق تحوُّل العملة الصينية إلى عملة عالمية تستطيع البنوك المركزية الاحتفاظ بها. ورغم أنها دخلت نادي النخبة للعملات الاحتياطية لصندوق النقد الدولي، فإنها ما زالت تفتقر إلى أنْ تكون عملة رئيسية عالمية، لأن اليوان عمليا ليس حرا، وقوانين السوق الصيني ليست واضحة تماما، فلكي يحقق اليوان مكانة عالمية حقيقية، يجب أن يكون متاحا مجانا للاستثمار عبر الحدود وليس مجرد وسيلة دفع لاستيعاب التجارة.

إن أحد أسباب رسوخ هيمنة الدولار بقوة هي استقراره، فبخلاف أنه يمكنك شراؤه وبيعه في أي وقت، فإن السوق الذي يحكمه إلى حدٍّ كبير وليس سياسات الحكومة، وهو نقيض ما تفعله الصين في سوقها المحلية الخاضعة لرقابة مشددة (15)، وكذلك عملتها التي تخضع كل يوم لسعر مرجعي يحدده البنك الشعبي الصيني. ورغم وعود الحكومة الصينية بالامتناع عن التدخل، فإن الهبوط الكبير الذي واجهته العملة عام 2023 يقود المستثمرين إلى الشك بأن البنك لن يتدخل، وفي حين ساعد خفض قيمة العملة الصادرات والاقتصاد الصيني، فإن استمرار ذلك يهدد مستقبلها بأن تصبح عملة احتياطية للبنوك، على عكس الدولار الذي يستمر في الحفاظ على قيمته المستقرة (16).

لا يزال أمام الصين طريق طويل لتقطعه حتى يقترب اليوان من أن يكون مؤثرا مثل الدولار. ووفقا لصندوق النقد الدولي، يُمثِّل اليوان 2.69% من احتياطات العملات الأجنبية، بينما يُشكِّل الدولار 59% منها، وبالحديث عن نظام المدفوعات الدولي “سويفت”، بلغت حصة اليوان 4.5%، في حين بلغ الدولار 83.7%، وتفسر هذه الأرقام لماذا تعتمد الصين حتى الآن على “سويفت”، رغم إنشائها عام 2015 نظاما ماليا موازيا هو “CIPS” بهدف تعزيز استخدام اليوان عبر الحدود، وبناء نظام مدفوعات بين البنوك يمكن أن يكون بديلا عن “سويفت” (17).

مع تحوُّل الكثير من الديناميات العالمية لخدمة مصالح بكين، يبدو أن الصين تمتلك العديد من العوائق الداخلية أمام طموحاتها، على رأسها تدخل الدولة الواسع في تسعير العملة. كما أن السماح لليوان بالصعود والهبوط قد يقود إلى انهيار الاقتصاد الصيني حال تدنَّى إلى مستوى الخطر، وهو ما يعوق مبدأ وجود عملة يمكن أن تتدفق بحرية، وهو المطلب الأساسي لعملة احتياطية عالمية، وهي المعادلة الصعبة التي يسعى الحزب الشيوعي الصيني لإيجاد حل لها، دون أن يضطر للتخلي عن سيطرته.

تتخذ تحركات الصين لاستبعاد الدولار إذن مسارا بطيئا وفعالا، لكنه يصطدم بعدة حقائق؛ أهمها أن بكين تواجه عدة مشكلات لإنشاء نظام مالي كبير، لأنها لا تتمتع بسيولة كبيرة بما يكفي، إلى جانب أنها تخضع لصرامة مُشددة، والأهم أن سوق سندات الحكومة الصينية ليست كبيرة بما يكفي، وعملتها غير مندمجة حتى الآن مع بقية العالم بالقدر الذي يمكنها من أن تحل محل الدولار الأميركي. ووفقا لمجلة “فورين بوليسي”، سعت الصين بعد الأزمة المالية العالمية عامي 2008-2009 جاهدة إلى تدويل عملتها، لكن مساعيها لم تؤتِ ثمارها. وتضيف المجلة أن السبب الذي يجعل سوق سندات الخزينة الأميركية جزءا لا غنى عنه من النظام المالي العالمي هو أن الولايات المتحدة مستعدة لتحمُّل مخاطر مالية لا تجرؤ عليها أي دولة أخرى، وأثبتت طوال عقود أنها قادرة على إدارتها بأمان (18).

محمد العربي