عنوان واحد احتلّ المساحة الكبرى في النقاش حول إعادة هيكلة القطاع المصرفي: هل ينبغي على الدولة أن تتحمّل شيئاً من المسؤولية عن إعادة ودائع اللبنانيين في المصارف؟
السؤال حول دور الدولة عن إعادة ودائع اللبنانيين في المصارف خرج من الإطار الاقتصادي- التقني. ليتحوّل إلى صراع بين فئات المجتمع حول توزيع مغانم الأزمة وفواتير خسائرها. والصوت الأعلى هذه الأيام لمن يرفضون أن تتحمّل الدولة أيّ عبء عن المودعين الذين باتوا أقلّية لا تتجاوز الآلاف. في مواجهة فئات أخرى لها مصلحة في إبقاء الحال على ما هو عليه.
هذا يكفي لتغذية موجة صاعدة من “النيو- اشتراكية” ترفع شعار “قدسية أصول الدولة” لإسقاط “قدسية الودائع”. كما لو أنّه صراع طبقات بين دافعي الضرائب وأصحاب رأس المال. هذه المقاربة الطبقية لها مؤدّى نهائي، وهو أنّ خسارة المودعين لم تعد شأناً عامّاً، بل قضية خاصة بينهم وبين أصحاب البنوك ورياض سلامة.
يتجاهل هذا التشخيص حقيقة أنّ أساس أزمة ودائع اللبنانيين (وغير اللبنانيين طبعاً) في المصارف اليوم يكمن في تخلّف مصرف لبنان عن سداد الأموال المستحقّة عليه للبنوك، والتي تزيد على 70 مليار دولار. وهذه الأموال هي الودائع ولا شيء سواها. والمسألة لا تتعلّق فقط بأنّ قانون النقد والتسليف واضح في المادّة 113 بأنّ تغطية خسائر “مصرف لبنان” مسؤولية الدولة. بل بأنّ الدولة مسؤولة، بمعايير السياسة والقانون، عن الارتكابات والخسائر التي وقعت في مؤسّسة عامّة.
انتقال الثروة من المودعين إلى 3 فئات
الأهمّ أنّ خسارة المودعين ليست حادثة معزولة في أحد البنوك، كما حدث في مصرف “كريدي سويس” العام الماضي مثلاً. بل هي أزمة نظاميّة انخرطت فيها الدولة من أمّ رأسها حتى أخمص قدميها. ليس فقط من باب أنّها أنفقت بتهوّر ووضعت يدها على أموال مصرف لبنان بطرق ملتوية. بل لأنّها استنكفت عن ممارسة مسؤوليّتها الرقابية والتشريعية لحفظ الحقوق وتوازنها.
السؤال حول دور الدولة عن إعادة ودائع اللبنانيين في المصارف خرج من الإطار الاقتصادي- التقني. ليتحوّل إلى صراع بين فئات المجتمع
وبسبب هذا الاستنكاف حدث اختلال هيكليّ أدّى إلى انتقال كبير للثروة من ودائع اللبنانيين في المصارف إلى ثلاث فئات رئيسية:
– الدولة: التي كسبت أكثر من 90 مليار دولار منذ اندلاع الأزمة. إذ إنّها محت 60 مليار دولار من ديونها بالليرة اللبنانية نتيجة انهيار سعر الصرف. ومحت مصاريف بعشرات مليارات الدولارات على مدى أربع سنوات بفعل التوقّف عن خدمة الديون، وبفعل انهيار قيمة الرواتب والأجور. ومحت الكثير من المصاريف الأخرى بالليرة.
– المقترضون: الذين كسبوا في المجمل نحو 40 مليار دولار من سداد قروضهم بالليرة أو بتجارة الشيكات. وبين هؤلاء سياسيون وقضاة ورجال أعمال وشركات كبرى. وبينهم أيضاً مواطنون ميسورو الحال حصلوا على عقارات بمئات آلاف الدولارات، وربّما بالملايين، بثمن بخس. وهناك مواطنون من الطبقة الوسطى استفادوا بشقق أو عقارات أو سيارات. إضافةً إلى متعثّرين كانوا في السجن أو على أعتابه، فأتتهم الأزمة فرجاً لينظّفوا سجلّاتهم.
– أصحاب البنوك: الذين خرجوا، بمعظمهم، من الأزمة من دون أن يتحمّلوا شيئاً. لأنّ يدهم ظلّت مطلقة في التصرّف بأموال المودعين. فضلع كثير منهم في تهريب الأموال أو في إخراجها من البنوك على شكل مصاريف تشغيلية. وتصرّفوا بالأصول المرهونة كما يشاؤون من دون أن يتحمّلوا أيّة مسؤولية أخلاقية أو أدبية أو قانونية تجاه المودعين. بل أحالوا أزمة المودعين إلى الدولة. وأحالوا أزمة الدولة إلى المودعين. ولكي لا يفوتهم شيء من الربح، تواطأوا في تجارة الشيكات لتذويب الودائع. واستبدلوا إيرادات الفوائد التي كانت مصدر دخلهم الأساسي بإيرادات الرسوم الجائرة على الحسابات القديمة والجديدة، بالتواطؤ مع “مصرف لبنان” أو تحت أنفه.
من يرفض تحميل الدولة المسؤوليّة؟
الأصوات الرافضة لمسؤولية الدولة عن أزمة ودائع اللبنانيين في المصارف، تسوق اعتبارات عدّة. ربّما أهمّها أنّ مشاركة الدولة في المسؤولية سيؤدّي إلى ارتفاع الدين العامّ بأضعاف حجم الناتج المحلّي. وهو ما سيشكّل عبئاً على دافعي الضرائب لأجيال مقبلة. وهذا يتنافى مع مبدأ “العدالة بين الأجيال”. وهو مبدأ يتمسّك به صندوق النقد الدولي. ولا شكّ أنّه اعتبار مشروع.
ودائع اللبنانيين في المصارف تقارب 90 مليار دولار. بينما الأصول الحقيقية للمصارف، إذا تمّت تصفيتها اليوم، لا تغطّي 5% من هذا الرقم
لكنّ الحلول البديلة التي يطرحها هؤلاء لا صلة لها بالواقع. وأساسها إلزام البنوك بإعادة الودائع، أو استعادة الأموال المنهوبة والمحوّلة إلى الخارج. والمشكلة في هذا الطرح أنّه يرهن إعادة الودائع بالمستحيل، لثلاثة أسباب على الأقلّ:
1- لأنه يحمّل المودعين مخاطر عجز الدولة عن استعادة الأموال المنهوبة. فإذا تمكّنت من استعادتها أعيدت إليهم أموالهم. وإذا لم تفعل شيئاً لاستعادتها تضيع الودائع. بينما البديهي أنّ استعادة الأموال المنهوبة شأن يخصّ الدولة، لا المودعين.
2- لأنّ ودائع اللبنانيين في المصارف (وغير اللبنانيين طبعاً) تقارب 90 مليار دولار. بينما الأصول الحقيقية للمصارف، إذا تمّت تصفيتها اليوم، لا تغطّي 5% من هذا الرقم. وهم يعلمون بالبديهة أنّ من المستحيل إجبار أصحاب المصارف على ضخّ 90 مليار دولار من حرّ أموالهم لزيادة رؤوس أموال مصارفهم، ليدفعوا للمودعين. ولو حُشروا بالزاوية لفضّلوا إفلاس مصارفهم وبيع أصولها بالمزاد. فهذا أوفر لهم، ببساطة لأنّها شركات محدودة المسؤولية. ولا يمكن العودة على مساهميها بالمسؤولية. هذه ألف باء القانون والماليّة والمحاسبة. المسألة إذن، بالتوصيف القانوني الحقوقي، هي بين المودعين والكيانات القانونية المسمّاة بنوكاً. وهذه الكيانات مفلسة، وليست بين المودعين وأصحاب البنوك. ولذلك فإنّ إيهام المودعين بأنّ بإمكانهم العودة على الأموال الحرّة للمساهمين في البنوك وهمٌ محض.
3- مع إدراك كلّ ما ارتكبته البنوك من موبقات، من أين تدفع المصارف الودائع لأصحابها بينما يمتنع مصرف لبنان عن أداء ودائع البنوك، التي تراوح بين 70 و80 مليار دولار. وبينما تمتنع الدولة عن سداد أصل وفوائد سنداتها بالعملة الأجنبية (اليوروبوندز)، التي تحمل البنوك نحو 9 مليارات دولار منها؟ كيف تطالبون البنوك بسداد الودائع بينما تنادون بشطب التزامات مصرف لبنان والدولة تجاه البنوك؟
الأصوات الرافضة لمسؤولية الدولة عن أزمة ودائع اللبنانيين في المصارف، تسوق أنّ مشاركة الدولة في المسؤولية سيؤدّي لارتفاع الدين العامّ بأضعاف حجم الناتج المحلّي
ضرائب استثنائيّة.. عدالة اجتماعيّة
إنّ أَوْلى وظائف الدولة وأسماها وأكثرها أساسية هي العدالة الاجتماعية. وعندما يحدث جور في انتقال الثروة، إمّا بطبيعة الأحوال أو بفعل فاعل، فمن واجب الدولة أن تتدخّل لإعادة التوازن من خلال التعويض على المتضرّرين وفرض ضرائب موجّهة بدقّة إلى المستفيدين من الأزمة.
المثال الأقرب في أوروبا حين قفزت أسعار الوقود والغاز بشكل هائل إثر الحرب الأوكرانية، فقفزت أرباح شركات النفط والغاز في مقابل إثقال كاهل الأسر بفواتير الكهرباء والتدفئة والبنزين. فما كان من الحكومة البريطانية والعديد من الحكومات الأوروبية إلا أن دعمت فواتير الغاز للمنازل بوضع سقف لها. وفرضت ضريبة “أرباح استثنائية” (windfall tax) على شركات الطاقة.
وكلّ مبدأ الضريبة في الاقتصادات الليبرالية يدور حول تدخّل الدولة لضمان التوازن في تكوين الثروات وتوزيعها.
ثمّ من أين أتى البعض بمقولة أنّ المال العامّ محرّم استخدامه لمعالجة الأزمات النظامية؟ ألم تستخدم أميركا المال العامّ لإنقاذ بنوكها وصناعة السيارات فيها في أزمة 2008؟ وهي تدخّلت لحماية أموال المودعين في “بنك سيليكون فالي” العام الماضي. كما تحمّل مجلس الاحتياطي الفدرالي مسؤولية الفشل الإشرافي الذي سمح بحدوث هذا الإفلاس.
الواجب الدستوري والأخلاقي على دولة استفادت بتسعين مليار دولار من الأزمة وكان فشلها سبباً في ضياع الودائع… أن تتحمّل شيئاً من المسؤولية تجاه المودعين. ثمّ تتحمّل مسؤولية استرداد الأموال من أثرياء الأزمة، سواء كانوا مرتكبين أم مجرد منتهزين للفرصة.
عبادة اللحن