تعد موجة التضخم المرتفعة التي بلغت عناوين الصحف هذا الأسبوع، وهي الضيف غير المرحب به الذي لا يزال يتسكع في الجوار عندما كان الجميع يأملون أن يغادر سريعاً، تذكيراً مفيداً بطريقة واحدة لفهم إحباطات عصر بايدن. وغالباً ما يجادل المدافعون عن الإدارة بأنها كانت أكثر نجاحاً في التشريع وصنع السياسات مما يمكن نسب الفضل إليها، وهناك بعض الحقيقة في هذا الادعاء. المشكلة هي أن البيت الأبيض نجح في الغالب في تنفيذ أجندة اقتصادية موجهة إلى منغصات منتصف العقد الأول من القرن الحالي، حتى مع أن مشكلات العقد الراهن، وأبرزها التضخم، جعلت تلك القضايا أقل أهمية بالشواغل المباشرة للناخبين.
فكِّروا في العقد الأول من القرن الحالي على أنه عصر خيبة الأمل المعقولة من النيوليبرالية. لم تكن شعبوية اليمين واشتراكية اليسار نماذج للصرامة والثبات، ولكن وراء صعود دونالد ترمب وشعبية بيرني ساندرز، كانت هناك مجموعة من المخاوف حول المشكلات التي لم يبدُ توافق النخبة حولها -سلبيات التجارة الحرة، والتداخل بين الصين والولايات المتحدة، والتعافي البطيء المؤلم من الركود العظيم، وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية والتعليم.
لقد صُمم كثير من الأجندة الاقتصادية لإدارة بايدن مع وضع هذه المجموعة من القضايا في الاعتبار. حوافز العمالة الكاملة، وصفقة الإنفاق الكبيرة على البنية التحتية، والتجارب مع السياسة الصناعية، ومحاولة الإعفاء من القروض الطلابية، والدفع باتجاه سياسة ضريبية صديقة للأسرة، وسياسة حافة الهاوية التجارية مع الصين: بقدر ما كان البيت الأبيض في عهد ترمب أو ربما أكثر، كانت هذه إدارة ما بعد النيوليبرالية.
وبطبيعة الحال، قد يقول اليسار المناصر لساندرز إن أجندة الرئيس جو بايدن لم تذهب بعيداً بما فيه الكفاية. (أين الدافع الفردي؟ وأين الكلية المجانية؟) قد يقول اليمين الشعبوي إن سياسة الحدود الكارثية قوّضت أجندته، كما أنه يميل أكثر مما ينبغي نحو أولويات الطبقة الوسطى العليا الليبرالية.
لكن من الناحية السياسية، من الواضح أن الجدل حول ما إذا كان بايدن قد تفهم مزيج ما بعد النيوليبرالية على النحو الصحيح، هو أقل أهمية من حقيقة مفادها أن أجندة ما بعد النيوليبرالية لا تملك إجابة واضحة لمشكلة التضخم.
بدلاً من ذلك، فإن كل الأفكار التي انبثقت عن الحسابات التي جرت في منتصف العقد الأول من القرن الحالي بشأن حدود النيوليبرالية تفترض درجة معينة من القدرة المالية. وهو بالضبط ما كان لدينا في تلك السنوات، مساحة أكبر مما افترضها نقاد السياسة المالية وصقور العجز الاقتصادي لأجل الإنفاق والتخفيضات الضريبية، ومساحة أكبر لإدارة الاقتصاد بصورة أكثر فاعلية، ومساحة أكبر لمناقشة ما إذا كان ينبغي للصفقة الخضراء الجديدة أو مشروع قانون كبير وجميل للبنية التحتية أو قانون ضريبي مؤيِّد للأسرة… أن يكون الأولوية الشعبوية الأكثر أهمية.
لكن بمجرد أن تفقدوا تلك المساحة، وبمجرد أن يعود التضخم من جديد، قد لا تزال تلك الأولويات مهمة -بالتأكيد أنا ما زلت أريد سياسة اقتصادية مؤيدة للأسرة، وحكومة يمكنها بناء مشاريع عامة كبيرة!- لكنها أمور لم تعد مستجيبة لأكبر مشكلة تواجه الناخبين: الأسعار المستمرة في الصعود أو مجرد الشعور بارتفاعها الحاد، وزيادة تكاليف المعيشة التي لا تؤثر فقط في السلع الوضعية مثل الكلية، وإنما تفاجئك في متجر البقالة ومحطة الوقود وفي كل مكان آخر إلى جانب ذلك.
يثير هذا النوع من المشكلات نوعاً مختلفاً تمام الاختلاف من التساؤلات عن الذي أثاره الاشتراكيون والشعوبيون في منتصف العقد الأول من القرن الحالي. لم يعد السؤال: «ما الأولوية التي نتغاضى عنها وتحتاج إلى اهتمام سياسي؟»، الآن لا بد للسؤال أن يكون: «ما الأولوية التي نستطيع أن نحيا من دونها؟ وما الضرائب التي تمكن زيادتها؟ أو ما البرنامج الذي يمكن خفضه بشكل معقول؟».
وإليكم رجال الأمس، وهم أنصار النيوليبرالية القديمة مع لجانهم الحزبية الثنائية وخططهم رفيعة المستوى لخفض العجز المرتفع، والذين تبين أن لديهم ما يقدمونه، في حين أن سياسات ما بعد النيوليبرالية من كلا اليمين واليسار لا تقدم شيئاً. ليس حتى الآن، على الأقل: بدلاً من ذلك، فإن الطريقة الشعبوية تتمثل في إمَّا إلقاء اللوم على الشركات الجشعة في كل شيء (انظر موقف بايدن الغريب، الذي نُشر في «سوبر باول صنداي» والهجوم على «الانكماش التضخمي» من شركات الوجبات الخفيفة) وإما تقديم وعود غامضة للحد من الهدر والاحتيال وسوء الاستخدام (الموقف الجمهوري الحالي)، مع الاعتماد طوال الوقت على بنك الاحتياطي الفيدرالي برئاسة جيروم بأول، في اتخاذ القرارات الصعبة، والتدخل حيث يخشى المسؤولون المنتخبون من كلا الحزبين أن يتدخلوا.
كان الأمل، بالنسبة إلى حظوظ بايدن بشكل خاص، أن يتمكن بنك الاحتياطي الفيدرالي فعلاً من القيام بكل شيء بمفرده، وأن تتمكن السياسة المالية في مرحلة ما بعد النيوليبرالية من تجنب الخيارات الصعبة ما دامت السياسة النقدية مستمرة.
قد تسير الأمور على هذا النحو، ولكنّ رقم التضخم المعلَن هو تذكير بأن الأمور قد لا تكون كذلك. وبدلاً من ذلك، قد نتّجه نحو الصدام ما بين بايدن وترمب، مع استمرار التضخم الذي يُشكل مصدر القلق الرئيسي على صعيد السياسة العامة، بل ربما مصدر القلق السياسي بالنسبة للناخبين الذين سوف يقررون نتيجة الانتخابات.
تُرى، هل يستطيع أي نوع من الشعبوية الأميركية، سواء كانت من قبيل نموذج بايدن أو نموذج ترمب، أن يُقدم برنامجاً مسؤولاً في ظل مثل هذه الظروف؟
أعتقد أنه ينبغي على المرء أن يقول شيئاً بناءً هنا، ولكن الجواب الواضح تماماً هو: كلا. وبدلاً من ذلك، إذا كان من المقرر أن تستمر عملية صناعة السياسات في مرحلة ما بعد النيوليبرالية، إما في ولاية بايدن الثانية وإما في ولاية ترمب الجديدة، فإنها لن تفعل ذلك إلا بسبب الإعانات المتأنية (الحذرة) المقدَّمة من أكثر المؤسسات مصداقية، وأكثرها معاداة للشعبوية، ومعاداة للديمقراطية في الولايات المتحدة.
يملك بنك الاحتياطي الفيدرالي وحده القدرة على حماية مرحلة ما بعد النيوليبرالية من القيود التي تفرضها بنفسها. ولن يتسنى للشعبوية البقاء على قيد الحياة إلا بمعاونة النخب.
روس دوثات خدمة «نيويورك تايمز»