من حيث المبدأ، سقطت خطة إعادة الانتظام الى القطاع المصرفي، التي لم تجد من يتبنّاها، قبل ان يتم عرضها للمناقشة على طاولة مجلس الوزراء. ويبدو انّ إشكالية توزيع المسؤوليات، ومشاركة كل الاطراف المعنية في حل الأزمة، لا تزال تراوح مكانها.
قد يكون متوقعاً من الدولة، هذه الدولة بالذات، أن تسعى الى إعفاء نفسها من أية مسؤولية في عملية الانقاذ، وان تعتمد مبدأ تحميل الآخرين أعباء تسديد اموال وضعت اليد عليها، أو اقترضتها وأنفقتها وأهدرتها على مدى سنوات. لكن من المستغرب أن ينحاز قسم من المنظّرين الى أفكار تهدف الى اعفاء الدولة من مسؤولياتها، والترويج لنظريات أقل ما يُقال فيها إنها مُنفصمة عن الواقع، وتقود الى خراب مثلّث الاضلع: تحرم المودعين من حقوقهم، تقضي على القطاع المالي، وتدفع الاقتصاد الى مزيد من الانكماش في المستقبل.
هناك مروحة واسعة من النظريات التي تستند في مجملها الى معالجة الأزمة من خلال تنفيذ القوانين القائمة لجهة اعلان افلاس كل المصارف ما دامت عاجزة عن تسديد الودائع نقداً. مع الاشارة الى انّ بعض المنظّرين في هذا الاتجاه لا يشعرون بالاحراج وهم يشرحون امام الرأي العام انّ القوانين واضحة لجهة اعتبار أي مصرف عاجز عن دفع وديعة الى مودع يطلبها هو مفلس، وكأنهم يخترعون البارود بترداد أمر معروف، يدرسه طالب الاقتصاد او الحقوق في السنة اولى في الجامعة. فهل نريد حقاً معالجة أزمة بحجم الأزمة النظامية في لبنان بهذه الطريقة؟ وهل تطبيق قانون التصفية هو الحل الذي اكتشفه هؤلاء بعد جهد جهيد، وبعد مراجعة دروس القانون والاقتصاد؟ وهل يجوز اعتبار الشيك المسحوب على مصرف لبنان وسيلة لا تصلح للابراء؟
في الواقع، لا بد من تذكير أصحاب هذه النظرية بالحقائق التالية:
اولاً – إعتماد هذا النهج يؤدي الى فقدان المودعين للقسم الاكبر من ودائعهم (حوالى 90% على اقل تقدير)، بالاضافة الى عدم مراعاة اصحاب الودائع الصغيرة، وهو مبدأ معتمد في كل دول العالم.
ثانياً – تصفية القطاع المالي، والبحث عن مستثمرين جدد في هذا القطاع. وستكون المهمة صعبة وغير مضمونة. وبالتالي، سيتأثر الاقتصاد في السنوات المقبلة، وسيسيطر الفقر لفترة طويلة من الزمن.
ثالثاً – إعفاء المُرتكب الاساسي من مسؤوليته، ووقف الضغط على الدولة بحيث يصبح متعذراً الافادة من اي ظرف لفرض اجراء اصلاحات واعادة هيكلة للقطاع العام، وهو في اساس الأزمة.
رابعاً – كيف يمكن تطبيق قوانين الافلاس العادية، اذا كانت المصارف العربية التي بقيت في لبنان ولم تشارك في إقراض الدولة، واجَهت هي الاخرى أزمة السيولة نفسها التي واجهتها المصارف اللبنانية، بما يؤكد انّ الأزمة ليست أزمة مصارف، بل أزمة نظامية شاملة تحتاج الى معالجات معروفة في هذا النوع من الأزمات.
وفي سياق النقاشات غير المُجدية، واذا سلّمنا جدلاً بأنّ أصحاب نظريات اعادة الودائع عن طريق الافلاس هم على حق، علينا ان نلاحظ انّ مصرف لبنان هو الجهة المخوّلة اعلان افلاس أي مصرف يعمل في لبنان. وما دامت لدى المصارف ودائع مسجلة في قيود مصرف لبنان تزيد عن 80 مليار دولار، فإنّ السؤال هو كيف سيتم التعاطي مع هذه الودائع في حال الافلاس؟ وكمثال على ذلك، اذا اعتبرنا انّ مصرفا كبيرا قرر تطبيق نظرية الافلاس، وطلب التصفية الذاتية، كيف سيتصرف مصرف لبنان حيال ذلك؟ اذ انه من المعروف انّ لجنة تصفية المصرف سيكون عليها ان تجمع وتسيّل كل املاك البنك وان تستردّ كل اصوله المالية أينما وجدت، وأن تسدّد ديونه، ومن ثم توزّع الاموال على أصحاب الحقوق (المودعون). وستطالب لجنة التصفية مصرف لبنان بتسديد توظيفات هذا المصرف لديه، وقد يصل حجم هذه التوظيفات الى 10 مليارات دولار، كما هي الحال لدى المصارف الكبيرة. فكيف سيتصرف المركزي حيال هذه المطالبة. اذا لَبّى الطلب سيُفرغ صناديقه من الاحتياطي الالزامي، وسيحرم مودعي كل المصارف المتبقية من احتمال استرداد اي دولار من صناديقه. واذا رفض الدفع، سيصبح مُمتنعاً عن دفع دين، وسيطبّق عليه القانون نفسه الذي يطالب المنظّرون بتطبيقه، اي الافلاس. وبين الخيارين، الدفع او الافلاس، لا يوجد خيار جيد، بل كارثة على كل المستويات. واذا كانت الدول لا تفلس بالمعنى القانوني للكلمة، لكنها تتعثّر، فإنّ المصارف المركزية يمكن أن تفلس، والافلاس يُحتّم تطبيق اجراءات شبيهة بالاجراءات التي يطالب بها منظّرو الافلاس، أي بيع الموجودات وتسييل الذهب لتسديد الديون. فهل هذا ما يسعى اليه أصحاب نظريات الافلاس الجماعي؟
انطوان فرح