أيا كان مستوى سلبية النظرة (إن وجدت) تجاه الاقتصاد الأميركي، فإنه يتصدر مشهد الانفراج العام في ساحة الاقتصادات المتقدمة كلها، بما فيها الأوروبي والبريطاني والياباني. تمكن أكبر اقتصاد في العالم من تجنب الركود في العامين الماضيين، واستطاع بالفعل أن “يؤمن” ما يسمى بـ”الهبوط الناعم”، الذي يضمن بقاءه خارج نطاق الركود، كما أنه حافظ بصورة أو بأخرى على وتيرة خفض مستويات التضخم، التي أفرزت (كما هو معروف) سلسلة من المصاعب الاقتصادية على مستوى العالم. مصاعب ضربت النمو حتى في الاقتصادات التي كانت تعد محركا أساسيا للنمو العالمي. وترى الجهات الرسمية الأميركية، أن عدم انزلاق اقتصاد الولايات المتحدة إلى الركود في العام الماضي، كان سببا مباشرا في تسجيل الاقتصاد العالمي نموا، بصرف النظر عن مستواه.
لكن النجاح في “تأمين” الهبوط الناعم، كان له انعكاساته على مسار النمو. وهذا أمر طبيعي في ساحة لا يزال التشديد النقدي سائدا فيها، وسيستمر ربما حتى مطلع العام المقبل. فالهدف الأميركي الأول يبقى إيصال التضخم إلى الحد الأقصى الرسمي المعروف وهو 2 %، ورغم أن هذا الأخير يتأرجح عند 3 %، إلا أن المشرعين الأميركيين لا يزالون يعتقدون أن المسألة مستمرة في دائرة الخطر. وهذا صحيح، خصوصا في ظل الضغوطات المعيشية، في الوقت الذي بدأت فيه مبكرا المعارك السياسية استعدادا للانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل. الأمل الآن على الساحة الأميركية الرسمية أن تستمر فترة “الهبوط الناعم”، ولن يتم ذلك إلا بمواصلة السياسة المالية الراهنة.
والذي يجعل الاقتصاد الأميركي أكثر مرونة و”ثباتا” مقارنة بأمثاله من الاقتصادات المتقدمة، أنه حافظ على مستوى التصنيف الائتماني له، بعد “الهزة” التي أحدثتها وكالة “فيتش” العالمية للتصنيف في الصيف الماضي، عندما خفضت مستواه من AAA+ إلى AA+، عدت الإدارة الأميركية آنذاك أن هذا الاستنتاج لهذه الجهة مبالغ فيه ولا يستند إلى الواقع. وبصرف النظر عن هذا الموقف، تؤكد “فيتش” أن أكبر اقتصاد في العالم، لا يزال محافظا على تصنيفه بدرجتي AA+، لكن قد يتراجع عن هذا المستوى إذا ما تفاقمت أزمة سقف الدين والإغلاق الحكومي، التي تتكرر بين الحين والآخر. واللافت في الأمر، أن ما يجري على الساحة الأميركية يدخل في سياسة “حافة الهاوية”، وهذا أسلوب يزعزع مكانة أي اقتصاد بصرف النظر على محوريته العالمية.
المهم أن النظرة المستقبلية للاقتصاد الأميركي تظل مستقرة، وهذا ما تفتقده عشرات الاقتصادات حول العالم. والنظرة المنصفة لهذا الاقتصاد، تبقى أنه حقق بالفعل أقوى تعاف بين جميع الاقتصادات الكبرى. والذي يدعم هذا المسار، أن النمو المتوقع لاقتصاد أميركا هذا العام، وفق صندوق النقد الدولي، سيصل إلى 2.1 %، وهي نسبة ليست منخفضة إذا ما أخذنا في الحسبان التشديد النقدي الراهن، حيث بلغت مستويات الفائدة 4.6 %. لكن النقطة الجيدة هنا، هي أن المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي “البنك المركزي” يعتزم خفضها بمعدل 0.75 %، بحلول نهاية العام الجاري. ما يعني، أن الحراك الاقتصادي المحلي سيشهد قفزة ما في عام الانتخابات الرئاسية.
وفق هذا التوجه، يأمل المشرعون المحافظة على “مكاسب” الهبوط الناعم، الذي يعد السلاح الأقوى أمام الركود. وإذا ما فشل ذلك، فستكون هناك تبعات اقتصادية صعبة، رغم أنها لن تصل على الساحة الاقتصادية الأميركية إلى مرحلة الخطر، كما قد يحدث في ساحات غربية مشابهة.
محمد كركوتي
الاقتصادية