قد يكون مناسبًا بعد أربع سنوات من تلك اللحظة أن نجيب على سؤال بسيط: ماذا لو لم يتخلّف لبنان عن سداد سندات اليوربوند؟ هل كانت الأمور ستسير على نحوٍ أفضل، بغياب خطّة تصحيح مالي شاملة؟ وهذا ما يستتبع تلقائيًا سؤالًا أوضح: هل كانت المشكلة في قرار التخلّف عن سداد السندات، أم في عدم إتباع ذلك القرار بتنفيذ خطة تعيد هيكلة الديون والقطاع المصرفي معًا؟ وعليه، هل نحمّل المسؤوليّة هنا لقرار التخلّف عن السداد، أم للتواطؤ الذي حصل لاحقًا لعرقلة أي خطّة أو حل شامل للأزمة؟
عن لحظة التخلّف عن السداد
حين اتخذ لبنان قرار التخلّف عن سداد سندات اليوروبوند، كان قد مرّ نحو خمسة أشهر على انكشاف أزمة السيولة في القطاع المصرفي، التي تجلّت في امتناع المصارف عن تأمين السحوبات أو التحويلات إلى الخارج لعملائها. وبهذا الشكل، كان النظام المالي اللبناني قد فقد أساسًا القدرة على استقطاب أي تحويلات ماليّة بالعملة الصعبة من الخارج، منذ تشرين الأوّل 2019 على أقل تقدير.
وعلى أي حال، بات من الواضح اليوم أنّ أزمة السيولة تلك لم ترتبط بظرف مؤقّت أو عابر، بل ارتبطت بمشكلة كبيرة على مستوى الملاءة، بسبب تراكم كتلة كبيرة من الخسائر على مرّ السنوات السابقة. لذلك، لم يكن قرار التخلّف عن سداد السندات سببًا من أسباب أزمة النظام المصرفي، بخلاف ما تسوّقه جمعيّة المصارف.
وعلى النحو نفسه، لم يكن قرار الامتناع عن سداد السندات السبب الذي أخرج لبنان من أسواق الدين الدوليّة. فمنذ العام 2017، لم يكن لبنان قادرًا على بيع أي سند دين في أسواق الدين، بسبب الشكوك في ملاءة الدولة اللبنانيّة وقدرتها على السداد. ومنذ ذلك الوقت، كانت الدولة تستنزف احتياطات المصرف المركزي، لتتمكن من تسديد السندات المستحقة عليها، لكونها لم تكن قادرة على الاقتراض لتسديد الديون المستحقة. وكان التصنيف الإئتماني قد بلغ في تلك المرحلة مستويات ما قبل التعثّر، في دلالة واضحة على فقدان الدولة القدرة على إعادة تمويل الدين.
وفي جميع الحالات، وقبيل اتخاذ قرار التوقّف عن دفع السندات، كانت سندات اليوروبوند اللبنانيّة تُباع في تلك المرحلة بأقل من 38% من قيمتها الإسميّة، أي من قيمة السداد عند الاستحقاق. وهذا ما يشير إلى أنّ الأسواق كانت قد تلقّفت جيّدًا عوامل الضغط التي يمر بها لبنان، والتي كان يفترض أن تفضي تلقائيًا إلى قرار بحجم التخلّف عن سداد السندات. وثمّة من يسأل عن دراية ومعرفة بآليّات عمل الأسواق: هل كان من الطبيعي أن يسدد لبنان استحقاق اليوربوند في آذار 2020 بكامل قيمته الإسميّة، إذا كانت السوق قد سعّرت السندات بـ 40% من قيمتها، بحسب فهمها لدرجة المخاطر؟ تسديد السندات على هذا النحو، كان سيعبّر عن خبل وجنون تامّين.
لكل هذه الأسباب، وإذا ما عدنا إلى تلك الظروف من باب توزيع المسؤوليّات، يمكن القول أن التخلّف عن السداد كان نتيجة لعوامل التأزّم: عدم قدرة الدولة على الاقتراض من الأسواق، وفقدان التدفّقات الواردة إلى النظام المالي، والتراجع السريع في احتياطات المصرف المركزي. ولذلك، لم يكن هناك ما يبرّر تسديد استحقاق آذار 2020، إذا كان الجميع متيقنًا من عدم قدرة الدولة على الاستمرار بسداد السندات في المستقبل، وإذا كانت الدولة ستضطر لإعادة هيكلة ديونها عاجلًا أو آجلًا. كان تسديد السندات بكامل قيمتها مجرّد هدر لا طائل منه، ومن طالب بذلك يومها انطلق من مصلحته الشخصيّة وليس المصلحة العامّة.
لو استمرّ لبنان بتسديد السندات
إذا كان قرار التخلّف عن الدفع نتيجة للأزمة، وليس سببًا لها، يمكن للمرء أن يطرح السؤال التالي: ماذا لو استمرّ لبنان في تسديد سندات اليوروبوند على مرّ السنوات الأربعة الماضية، في ظل نفس الظروف الاقتصاديّة والسياسيّة التي شهدتها البلاد؟ كيف كانت لتكون وضعيّة احتياطات المصرف المركزي بحلول العام 2024؟
تشير الأرقام إلى أنّ حجم استحقاقات سندات اليوروبوند مع فوائدها، بين العامين 2020 و2023، بلغت على نحوٍ تراكمي أكثر من 14.9 مليار دولار أميركي. أي بمعنى آخر، وبغياب أي تدفقات واردة إلى النظام المالي اللبناني، وبغياب أي موارد ماليّة تمكّن الدولة من سداد هذه الاستحقاقات، كان تسديد استحقاقات اليوروبوند على مرّ السنوات الأربعة الماضية سيؤدّي إلى استنزاف كامل قيمة الاحتياطات المتبقية في مصرف لبنان. بحلول بداية 2024، كانت قيمة احتياطات المصرف المركزي ستوازي صفرًا، لو كان لبنان قد استمرّ بتسديد سندات اليوروبوند منذ العام 2020.
وبطبيعة الحال، وبحسب هذا السيناريو كان التخلّف عن دفع السندات سيحصل عاجلًا أم آجلًا، بمجرّد استنزاف المتبقي من احتياطات مصرف لبنان. وبهذا الشكل، نصل إلى الخلاصة نفسها: أي إنفاق لتسديد السندات خلال السنوات الأربعة الماضية كان سيمثّل هدرًا موصوفًا، طالما أننا سنصل إلى مرحلة التخلّف عن السداد، وطالما أنّنا سنعيد هيكلة الديون.
مشكلة غياب الخطّة
المشكلة الفعليّة إذًا، لم تكن في اتخاذ قرار التخلّف عن السداد، الذي مثّل النتيجة المنطقيّة الوحيدة لكل ما سبقه من أحداث وأزمات. المشكلة كانت في مكان آخر: عدم تلازم القرار مع خطّة تعيد هيكلة الدين العام وتصحّح وضعيّة الميزانيّة العامّة، مع إعادة هيكلة القطاع المصرفي ومعالجة الخسائر المتراكمة في ميزانيّاته. هذا ما جعل التخلّف عن السداد تخلفًا فوضويًا، أو غير منظم.
في هذه النقطة، يمكن أن نلقي جزءاً من المسؤوليّة على حكومة حسان دياب، لكونها لم تفرض على أقطاب الحكم النافذين يومها المعالم الأساسيّة لخطتها الماليّة، قبل اتخاذ قرار التخلّف عن سداد السندات. فالظروف التي كانت تضغط باتجاه التخلّف عن السداد، كانت تسمح للحكومة بوضع هذا النوع من الشروط، قبل رفع عبء الاستحقاقات الداهمة عن الدولة اللبنانيّة.
لكن في المقابل، يمكن القول أن الجزء الأكبر من المسؤوليّة يقع أيضًا على النخب السياسيّة والماليّة في البلاد، التي عرقلت منذ نيسان 2020 أي خطّة متكاملة للحل. وهذا تحديدًا ما شهده اللبنانيون عند الإطاحة بخطّة لازارد، ورفض أي مسار يمكن أن يفضي إلى إعادة هيكلة القطاع المصرفي، والتملّص من الاعتراف بخسائر النظام المالي عام 2020، وعرقلة التفاهم مع صندوق النقد الدولي. هذه الخطوات التي جاءت لمصلحة الفئات الأكثر نفوذًا في النظام المالي والمصرفي، منعت حكومة دياب من تنفيذ أو حتّى مناقشة أي خطّة متكاملة للحل.
هكذا، تم استعمال حكومة دياب لتحميلها مسؤوليّة قرار التخلّف عن سداد سندات اليوروبوند، من دون أن يُسمح لها بتنظيم هذه الخطوة، أو بوضع خطة لمعالجة الأزمة بمختلف جوانبها. والبديل عن الخطّة الشاملة، كما بات واضحًا، كان خطّة الظل، التي عممت الخسائر على المجتمع بأسره، بدل معالجة أزمتي المصارف والماليّة العامّة بشكل مباشر. وبعد مرور أربع سنوات على التخلّف عن السداد، لم يباشر لبنان بعد مفاوضاته مع الدائنين، وهو ما يعكس استهتار وقلّة مسؤوليّة أصحاب القرار اتجاه هذا الملف الحسّاس والشائك.
علي نور الدين