الحقبة السوداء المقبلة: ما بعد دعاوى الدائنين الأجانب

أشارت “المدن” في مقالٍ أوّل من أمس إلى قرب استحقاق تلقي دعاوى حملة سندات اليوروبوند، وخلال أقل من سنة من اليوم، إذا لم يتم الاتفاق مع الدائنين على عمليّة إعادة هيكلة شاملة للدين. إذ تنص عقود إصدار السندات على منح الدائنين مهلة خمس سنوات للمطالبة القانونيّة بفوائد تلك السندات، بمجرّد توقّف الدولة اللبنانيّة عن السداد، وهو ما حصل بالفعل في آذار 2020. وكون أنّ الدولة اللبنانيّة لم تباشر التفاوض الفعلي مع حملة السندات بعد، ولم تحقّق أبسط متطلّبات بدء هذا التفاوض، بما في ذلك إنجاز الاتفاق النهائي مع صندوق النقد، من المتوقّع أن ندخل قبل آذار 2025 مرحلة تلقّي الدعاوى القانونيّة.

هذا المشهد، يفرض على الدولة اللبنانيّة تلّمس معالم المرحلة المظلمة المقبلة. كما يفرض على اللبنانيين معرفة المسؤولين عن وصول البلاد إلى هذه المرحلة، وخصوصًا أولئك الذين عرقلوا أبسط الشروط المطلوبة للتوصّل إلى سلّة الحلول الماليّة المطلوبة منذ أواخر العام 2019. فما بعد تلقّي دعاوى حملة السندات، لن يكون كما قبله.


لبنان الاستثناء الوحيد منذ العام 2020
منذ العام 2020، أعلنت عشر دول –من بينها لبنان- التوقّف عن سداد سنداتها السياديّة. وجميع هذه الدول –باستثناء لبنان- تمكّنت من دخول مسارات للتفاوض مع الدائنين، وإعادة هيكلة ديونها، لتتمكن لاحقًا من العودة إلى أسواق المال الدوليّة. ضمن هذه اللائحة، ثمّة ثماني دول تمكّنت من التفاوض لإعادة هيكلة الديون بالتوازي مع دخولها في برامج تمويل مع صندوق النقد الدولي، في حين أن سبع دول مرّت بهذا المسار بالاستفادة من خطط لازارد بالتحديد.

وحده لبنان، من بين جميع الدول المتعثّرة منذ العام 2020، مازال عالقًا في مرحلة التعثّر، من دون بدء التفاوض الجدّي مع حملة السندات. ووحده لبنان، وجد أن أفكار شركة لازارد –التي جرى الاستعانة بها عام 2020- كانت عبارة عن خطّة تفليسيّة. أمّا الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد، فظلّ حبرًا على ورق منذ نيسان 2022. وبغياب الاتفاق مع صندوق النقد، ومع تعثّر عمليّة إعادة هيكلة القطاع المالي ومعالجة خسائره، لم يكن من الواقعي بدء التفاوض مع حملة سندات اليوروبوند أصلًا. ومع غياب هذه الخطوات الأساسيّة اليوم، من المستبعد أن ينجح لبنان في الاتفاق مع الدائنين قبل آذار 2025.

قبل الخوض في معالم المرحلة المقبلة، وعند تحديد المسؤوليّات، ثمّة حاجة لإعادة التذكير بالتالي: في لبنان، عام 2020، تنطّحت نخبة مصرفيّة وسياسيّة في مجلس النوّاب ومصرف لبنان وجمعيّة المصارف للانقلاب على أي حل يعترف بالخسائر الماليّة ويعالجها. وثمّة من اعتنق مقاربات رياض سلامة داخل لجنة المال والموازنة، عبر لجنة تقصّي الحقائق بالتحديد، في مواجهة المقاربات التي طرحها خبراء لازارد وصندوق النقد الدولي. ومنذ ذلك الوقت، لم تغيّر هذه النخبة أسلوبها القائم على الانقلاب على الحلول، ورفض إعادة هيكلة القطاع المصرفي. هؤلاء، سيتحمّلون مسؤوليّة المرحلة المقبلة!

ثمّة حاجة للتذكير بمسألة أخرى. هذه النخبة بالذات، التي رفضت مقاربات إعادة الهيكلة والاعتراف بالخسائر، تنطّحت منذ ذلك الوقت لحمل الشعار البديل: مسؤوليّة الدولة عن خسائر المصارف. هذا الشعار، الذي تتم ترجمته في مشروع قانون داخل مجلس النوّاب اليوم، سيكون مسؤولًا عن تهديد أصول المصرف المركزي في الخارج، أي الذهب والاحتياطات، عبر ملاحقات الدائنين الأجانب في محاكم نيويورك. فالحصانة القانونيّة لهذه الموجودات أمام المحاكم، ليست مطلقة، بل تقتصر على حدود استقلاليّة المصرف المركزي في أعماله، وهذا ما يضربه عمل “العباقرة” الذين يربطون خسائر القطاع المصرفي بمسؤوليّة الدولة اللبنانيّة.


ما بعد دعاوى حملة السندات
طوال السنوات الأربعة الماضية، ولغاية اليوم، أي قبل الوصول إلى مرحلة الادعاء وصدور الأحكام القانونيّة، كان بإمكان الدولة الوصول إلى اتفاق لإعادة هيكلة ديونها، مع حملة سندات كل شريحة من شرائح اليوروبوند –أي كل استحقاق- على حدّة. وبحسب العقود الموقّعة، كان من الممكن فرض الاتفاق على جميع حملة سندات كل شريحة، عبر الاتفاق جماعيًا مع أصحاب 75% من السندات التي تشملها الشريحة. وبما أن قيمة السندات في السوق اليوم تقل عن 7% من قيمتها الإسميّة عند الإصدار، كان من الممكن أن تتوصّل الدولة إلى شروط جيّدة، تضمن اقتطاع وازن من قيمة السندات وفوائدها. بل وكان بإمكان الدولة شراء بعض هذه السندات بالسعر المنخفض الراهن.

بعد رفع الدعاوى وصدور الأحكام، التي تلزم الدولة بالسداد، ستكون المسألة مختلفة. لن يكون بإمكان الدولة التفاوض جماعيًا للاتفاق مع 75% من حملة سندات كل شريحة، لفرض الاتفاق على الشريحة بأسرها. ستتغيّر الوضعيّة القانونيّة لمالكي اليوروبوند، من حملة سندات، إلى  مستفيدين من أحكام قضائيّة. وعند هذه النقطة، سيكون بإمكان حامل كل سند أن يفاوض بنفسه ولمصلحته وحده. وبذلك، سيكون بإمكان الكثير من حملة السندات الاستفادة من هذه الوضعيّة، لعرقلة جدولة جميع السندات، وبالتالي عرقلة عودة الدولة إلى أسواق المال الدوليّة. ببساطة، ستكون عمليّة إعادة الهيكلة مسارًا مكلفًا على الدولة اللبنانيّة، بخلاف ما كان عليه الحال طوال السنوات الأربعة الماضية.


أصول مصرف لبنان كورقة تفاوض
سنة 2001، وعندما حاول بعض حملة السندات الحجز على ممتلكات المصرف المركزي الأرجنتيني، استعملت المحاكم الأميركيّة عبارة واضحة لتقييم مدى استقلاليّة المصرف المركزي، ومدى تمتّع موجودات بالحصانة القانونيّة: ممارسة الدولة ذات السيادة سيطرة واسعة ومتكرّرة على العمليّات اليوميّة للأداة (أي المصرف المركزي). بمعنى آخر، لا تكتسب موجودات المصرف المركزي حصانتها إلّا بقدر ابتعادها عن السيطرة “الواسعة والمتكرّرة” للدولة.

لا شك أنّ حملة السندات الأجانب، ومنهم كبار الصناديق الاستثماريّة المتخصّصة بهذه الملاحقات القانونيّة، أدركوا ذلك باكرًا. وأدركوا أن أبرز الأوراق التفاوضيّة التي سيملكونها ستكون أصول مصرف لبنان في الخارج، أي الذهب والاحتياطات النقديّة. طوال السنوات الأربعة الماضية، تركوا المسؤولين في لبنان يغرقون في خطاياهم: من تبنّي مبدأ تحميل الدولة خسائر المصرف المركزي، إلى تزوير ميزانيّات المصرف لاستحداث ديون جديدة على الدولة. كانت جميع هذه الممارسات، مجرّد أوراق سيتم استخدامها لملاحقة أصول مصرف لبنان، ووضع اليد عليها.

عندها، لينتظر المودع استبدال أصول القطاع المصرفي، أي مصرف لبنان، السائلة، بديون سياديّة على دولة متعثّرة غير قادرة على العودة إلى أسواق المال الدوليّة. هذا مآل نظريّة “قدسية الودائع”، التي تراهن على “مسؤوليّة الدولة” عن الخسائر، للهروب من استحقاق إعادة هيكلة القطاع المصرفي! وهذا مآل جميع من تبنّى مقاربات رياض سلامة وجمعيّة المصارف، في مجلس النوّاب، عند الانقلاب على خطّة لازارد وأرقامها، بحجّة “عدم وجود خسائر بل إلتزامات على الدولة” (الشعار الشهير للنائب إبراهيم كنعان).

في النتيجة، ثمّة أيّام سوداء بانتظار الاقتصاد والمجتمع اللبناني. ومن تواطأ على مصلحة الدولة اللبنانيّة، لمصلحة المصارف وحملة سندات اليوروبوند معًا، هو كل من عرقلة الإصلاحات الماليّة. هؤلاء، سيتحمّلون المسؤوليّة أمام التاريخ.

علي نور الدين