لقد حصلت مفاجأة عند الأميركيين عندما ارتفع معدل التضخم، وكذلك عندما انخفض، ومفاجأة مرة أخرى عندما توقف عن الانخفاض، ولكن الرسالة التي تصل من كل هذه المفاجآت، إلى الجميع بما في ذلك الاقتصاديون المحترفون، لا تفسر الأسباب التي تجعل الأسعار ترتفع وتنخفض.
ولكن عدم ثبات فهم هذه المسألة هو ليس مجرد مشكلة صغيرة، وذلك لأن التضخم له أهمية كبيرة، وأحد الأسباب الرئيسية لتراجع معدل تأييد الرئيس الأميركي جو بايدن في استطلاعات الرأي هو أن الناخبين، سواء كانوا على صواب أو خطأ، يلقون باللوم على سياساته في ارتفاع معدلات التضخم في عام 2022، عندما بلغ التغير السنوي في مؤشر أسعار المستهلك 9.1 في المائة لبعض الوقت، ولكن يبدو أن بنك الاحتياطي الفيدرالي قد بات عازماً بشكل حازم على خفض معدل التضخم إلى هدفه البالغ 2 في المائة، لدرجة أنه يخاطر بالركود من خلال إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة.
وبعيداً عن هذه الاعتبارات العملية، فإنه في حال لم يفهم التضخم، فإنه لن يفهم أي شيء آخر عن دورة الأعمال (إن وجدت) بشكل حقيقي، وذلك لأن النمو والتضخم مرتبطان ببعضهما البعض.
وأعتقد أن أسواق الأسهم والسندات قد تأثرت بشكل مُبالغ فيه بالزيادة الأعلى من المتوقع الشهر الماضي في مؤشر أسعار المستهلك الذي تم الإعلان عنها هذا الأسبوع، والتي تبدو بالنسبة لي مجرد نقطة عابرة أكثر من كونها تمثل انعكاساً خطيراً، لكنني أعترف بأنني لا أعرف الحقيقة على وجه اليقين، ولا أحد كذلك.
وعندما كتبت عن جهل الأميركيين الجماعي بشأن التضخم في تدوينة، سابقاً، في اليوم الذي تم الإعلان فيه عن مؤشر أسعار المستهلكين في شهر مارس (آذار) الماضي، نقلت تصريحات على لسان جيروم باول، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي يحب أن يقول إن واضعي أسعار الفائدة في بنك الاحتياطي الفيدرالي يبحرون بأقصى سرعة تحت سماء ملبدة بالغيوم.
ومنذ ذلك الحين، بدأت أقرأ كتاباً جديداً لجيريمي رود، وهو أحد المطلعين على أسرار بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما جعلني أعتقد بأن الأمور أسوأ مما تشير إليه استعارة باول، فرغم عنوانه اللطيف: «دليل عملي للاقتصاد الكلي»، فإن كتاب رود يمثل إدانة واسعة النطاق للاقتصاد الكلي الأكاديمي لفشله في تقديم النصائح والأفكار المفيدة لصناع السياسات، مثل مسؤولي بنك الاحتياطي الفيدرالي.
ومن المنطقي أن التضخم يميل إلى الارتفاع عندما يكون الاقتصاد ساخناً بسبب قوانين العرض والطلب، فعندما يكون الطلب قوياً ولا يستطيع العرض مواكبته، ترتفع الأسعار لإعادة ضبط التوازن، وعلى المدى القصير، يصاحب التضخم المرتفع هذا انخفاضاً في معدل البطالة، فيما يصاحب التضخم المنخفض ارتفاعاً في معدل البطالة، وتظهر هذه العلاقة العكسية في منحنى فيليبس (منحنى يبين العلاقة بين البطالة ومعدل التضخم ويبين أن العلاقة عكسية بينهما، فمعدلات البطالة المنخفضة تعني تضخماً عالياً، والعكس صحيح)، الذي يشكل العمود الفقري للنماذج التي يستخدمها معظم المتنبئين بالاقتصاد.
ومع ذلك، فقد توقع عدد قليل من الاقتصاديين أن يرتفع معدل التضخم بالقدر نفسه الذي حدث في عامي 2021 و2022، عندما تم تعزيز الطلب من خلال المساعدات الفيدرالية لمكافحة وباء كورونا، وكان العرض مقيداً بسبب اختناقات سلاسل التوريد، ومن بين أولئك الذين حذروا من ارتفاع معدل التضخم، لم يعتقد سوى عدد قليل منهم أنه سينحسر بهذه السرعة، إذ اعتقد الكثيرون أن الأمر سيستغرق انكماشاً اقتصادياً طويلاً للتخلص من معدلات التضخم المرتفعة، لكن معدل التضخم انخفض إلى أقل من 4 في المائة بحلول يونيو (حزيران) 2023، وذلك حتى مع استمرار الاقتصاد في خلق الكثير من الوظائف.
وقد كان ذلك مفاجئاً، وكانت المفاجأة الأخيرة هي أن التقدم ضد معدلات التضخم المرتفعة توقف في ذلك الوقت، ففي شهر مارس من هذا العام، بلغ التغير السنوي في مؤشر أسعار المستهلك 3.5 في المائة، بعد أن كان 3.2 في المائة في فبراير (شباط).
وكتب رود في كتابه أن منحنى فيليبس لم يقدم إشارات مفيدة، قائلاً: «رغم أن المنحنى كان ساحراً منذ الإعلان عنه لأول مرة، فإنه ليست لدينا نظرية مقنعة لديناميات التضخم التي تسمح لنا بفهم الارتباط بين معدلي التضخم والبطالة الخاص بفيليبس».
وأضاف رود أن «حقيقة أننا ببساطة لا نعرف ما الذي دفع الاقتصاد الأميركي إلى التحول إلى هذا النظام المتضخم مثل ما حدث في عامي 2021 و2022 هي أمر محرج من وجهة النظر المهنية، وذلك لأن الأمر يسلط الضوء على أننا ما زلنا لا نفهم شيئاً تقريباً عن كيفية عمل التضخم رغم سبعة عقود من الأبحاث».
وبينما تقول النظرية السائدة إن زيادات الأجور عادة ما تؤدي إلى زيادة معدل التضخم، فإن هذا ليس ما حدث أثناء انفجار معدل التضخم إبان الوباء، إذ فشل نمو الأجور في مواكبة الأسعار، كما كتب الاقتصاديان بن برنانكي، من معهد بروكينغز، وأوليفييه بلانشار، من «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، في مقالة بحثية العام الماضي.
ومع ذلك، فإنهما حذرا من أنه «في حال استمرت ظروف سوق العمل الحالية كما هي، فإن تأثير نمو الأجور على التضخم من المرجح أن يكبر ولن يتراجع من تلقاء نفسه».
وانتقد سيرفاس ستورم، وهو خبير اقتصادي هولندي، تحذير برنانكي وبلانشار في مقال نُشر مؤخراً، زاعماً أن العمال الأميركيين لا يملكون القدرة على المطالبة بأجور مرتفعة بسبب انخفاض معدل الانضمام إلى نقابات القطاع الخاص (6.9 في المائة)، وكتب ستورم، وهو أحد كبار محاضري الاقتصاد في جامعة «دلفت» للتكنولوجيا: «إن النماذج الكينزية الجديدة الراسخة ليست ذات فائدة، وأن حالة الاقتصاد الكلي ليست جيدة».
ولكن بلانشار، وهو كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، قال لي عبر البريد الإلكتروني إنه يختلف بشدة مع هذا الرأي، مشيراً إلى أن «فكرة منحنى فيليبس لم تمت، فمن الصعب الاعتقاد بأنه عندما يكون الاقتصاد محموماً، لن يكون هناك ضغط بطريقة ما على الأجور والأسعار، فالعلاقة ليست تافهة، وصحيح أنها تتغير مع مرور الوقت، لكن ذلك لا ينفي وجودها».
ويبدو رد بلانشار منطقياً، فقد حذر، على حق، في عام 2021 من خطر التضخم (رغم أنه تبين أن الوضع أسوأ مما كان يعتقد)، وقد فعل ذلك باستخدام نظرية الاقتصاد الكلي القياسية.
ومع ذلك، فإن إحدى مشكلات النظريات الأكاديمية للتضخم هي أنها تميل إلى الاعتماد على تقدير الأرقام التي لا يمكن ملاحظتها بشكل مباشر، مثل مدى السرعة الذي يمكن أن ينمو بها الاقتصاد دون رفع معدل التضخم والمعدل المتوقع للتضخم.
فمَن يعرف حقاً مدى السرعة التي يمكن أن ينمو بها الاقتصاد؟ وأيضاً، ما هي توقعات التضخم التي تشكل أهمية كبيرة، وكيف يمكن قياسها؟ فمن الصعب للغاية قياس الظواهر التي يمكن ملاحظتها، مثل مدى تغير الأسعار خلال الشهر الماضي.
بيتر كوي