في أرقام الميزانيّة نصف الشهريّة التي نشرها مصرف لبنان مؤخرًا، التي تُظهر وضعيّته الماليّة حتّى منتصف شهر نيسان الحالي، ثمّة ما يستحق الوقوف عنده: قيمة احتياطات الذهب ارتفعت من 20.33 مليار دولار في أواخر شهر آذار، إلى أكثر من 21.66 مليار دولار في منتصف الشهر. أي بصورة أوضح، ارتفعت قيمة احتياطات الذهب بنحو 1.34 مليار دولار، خلال فترة 15 يومًا، أي خلال النصف الأوّل من شهر نيسان. والسبب كما هو معلوم وواضح، استمرار ارتفاع أسعار الذهب العالميّة. مع الإشارة إلى أنّ هذا العامل بالتحديد رفع قيمة الذهب المملوك من مصرف لبنان بأكثر من 7.8 مليار دولار، منذ منتصف تشرين الأوّل 2019، أي منذ بداية الأزمة المصرفيّة.
من الناحية المحاسبيّة، من المفترض أن تُسجّل هذه الزيادات كأرباح في ميزانيّة المصرف المركزي، ضمن حساب خاص وفق نص المادّة 115 من قانون النقد والتسليف. على أن يتم حفظ 20% من هذه الفوائض كوديعة، وتحويل الجزء المتبقي إلى حساب الخزينة اللبنانيّة. وبطبيعة الحال، لن تمثّل كل هذه العمليّات أي تحويل فعلي للنقد أو السيولة، لكنّها تمثّل توثيقًا محاسبيًا للحقوق المتأتية عن زيادة قيمة الذهب. أي بعبارة أخرى، تمثّل قيودًا تُثبت صاحب الحق القانوني بهذه الزيادات، وإن كان القانون يمنع التصرّف بالذهب الموجود في مصرف لبنان أو بالزيادات المحققة في قيمته.
كيف استعمل مصرف لبنان الزيادة في قيمة الذهب؟
غير أنّ ما يجري في دهاليز مصرف لبنان، كان مخالفًا لكل ما سبق ذكره. فما سنذكره الآن، هو تمهيد قد يبدو بعيدًا عن السؤال الذي نطرحه بخصوص الذهب، لكنّه ضروري لفهم خطورة ما يجري، بل على وجه الخصوص: لفهم خطورة ما يجري على مستقبل ذهب مصرف لبنان.
يذكر جميع اللبنانيون أعمال التزوير التي قام بها مصرف لبنان في الربع الأوّل من العام 2023، أي في أواخر أشهر ولاية سلامة، والتي نقلت الجزء الأساسي من الخسائر المصرفيّة الناتجة عن تداولات مصرف لبنان مع المصارف، إلى حسابات خاصّة تمثّل دينًا على الدولة اللبنانيّة. وفي خلاصة الأمر، باتت الدولة مدينة برقم إجمالي يتجاوز 55 مليار دولار، لمصلحة المصرف المركزي، المدين بدوره للمصارف.
في واقع الأمر، لا يمكن نكران أن المصرف المركزي مدين بالفعل لمصلحة المصارف، بقيمة توازي اليوم 87 مليار دولار. كما من المعلوم أن المصرف المركزي لا يملك –كسيولة فعليّة- إلا جزء يسير من هذه الإلتزامات، وهو ما يُنتج “فجوة العملات الأجنبيّة”، أي الفارق بين الإلتزامات والموجودات بالعملة الصعبة، داخل القطاع المصرفي. وهذه الفجوة، التي تراكم جلّها منذ بداية حقبة الهندسات الماليّة، وما تبعها من سياسات نقديّة مشبوهة، هي السبب الأساسي لأزمة القطاع.
لكنّ المشكلة الفعليّة، تمثّلت في قيام الحاكم السابق رياض سلامة بتحويل هذه الفجوة إلى إلتزام على الدولة اللبنانيّة، قبل الارتكاز إلى أي تدقيق فعلي يميّز ما بين العمليّات والأرباح المشبوهة من جهة، والتسليفات الطبيعيّة والقانونيّة من جهة أخرى. وعلى أي حال، لم يرتكز مصرف لبنان على أي موجب قانوني، لمراكمة ديون عامّة جديدة يقارب حجمها 2.75 مرّات حجم الاقتصاد الوطني. لكنّ المطلوب، كما بات واضحًا، العودة إلى مشروع جمعيّة المصارف الأساسي: التملّص من استحقاق إعادة هيكلة المصارف، والذهاب نحو تحويل الخسائر، والتزامات المصارف للمودعين، إلى ديون عامّة.
بعد هذا المقدّمة الضروريّة، نعود إلى السؤال الأساسي: كيف استعمل مصرف لبنان الزيادة في قيمة الذهب؟
حسنًا، من الواضح أنّ القارئ بات قادرًا الآن على استباق جوابنا: تم استخدام الزيادة في قيمة الذهب لإطفاء الخسائر المصرفيّة، التي تم تسجيلها كدين على الدولة. بدل أن تُضاف الزيادة في قيمة الذهب كحقوق للدولة، تم حسمها من الإلتزامات التي “ركّبها” رياض سلامة –وحافظت عليها “القيادة الجديدة” في مصرف لبنان- على الدولة اللبنانيّة.
أرقام الميزانيّة وخطورة هذه التطوّرات
أرقام الميزانيّة في النصف الأوّل من شهر نيسان تُظهر مثلًا أن قيمة الذهب ارتفعت بقيمة 1.33 مليار دولار. وفي المقابل، انخفضت قيمة بند “فروقات التقييم” بقيمة 1.34 مليار دولار. وبند “فروقات التقييم”، هو الذي تم استعماله لتجميع جميع الخسائر المُحققة تاريخيًا في تعاملات مصرف لبنان مع المصارف، لقيدها كدين على الدولة اللبنانيّة، حسب فهم مشوّه ومغلوط للمواد 75 و115 من قانون النقد والتسليف.
من المهم الإشارة هنا إلى أنّ كل ما يجري تقييده هنا لا يؤثّر على وضعيّة الذهب من الناحية الملموسة: الذهب ما زال مودعًا في خزائن المصرف المركزي أو في الولايات المتحدة الأميركيّة. واستعماله بأي شكل من الأشكال، ممنوع بنص قانوني. لكن النتيجة المحاسبيّة لهذه التطوّرات هي تغيير صاحب الحق القانوني فيه: بدل أن ترتفع حقوق الدولة، المتأتية عن امتلاك المصرف للذهب، تم حسم زيادات قيمة الذهب من ديون مزعومة على الدولة اللبنانيّة. وهي ديون تم قيدها بموجب عمليّات تزوير صريحة، في حقبة الحاكم السابق رياض سلامة، لتحويل الخسائر المصرفيّة إلى ديون عامّة.
وبهذا الشكل، شطبت الزيادة في قيمة الذهب نسبة من الخسائر المصرفيّة في ميزانيّة مصرف لبنان. أمّا من جهة الأخرى من ميزانيّة مصرف لبنان، أي من جهة المطلوبات والإلتزامات، وبدل أن تقابل قيمة الذهب حقوق للدولة اللبنانيّة، ستقابل هذه القيمة إلتزامات المصرف المركزي للمصارف. هذه الإلتزامات، التي كانت مسجّلة مقابل الخسائر المتراكمة، باتت مسجّلة مقابل الزيادات في قيمة الذهب.
كيف تتكامل أجزاء اللعبة؟
أجزاء اللعبة أكبر من مسألة الذهب وحده. ثمّة قرار لمجلس شورى الدولة، يُلزم الدولة بتحمّل مسؤوليّة الخسائر المصرفيّة، بدل معالجتها بعمليّة إعادة الهيكلة. وهناك وزراء يتنطّحون لحماية مصالح المصرفيين، بعرقلة مشروع قانون إعادة الهيكلة. وهناك كتل تتسابق على طرح مشاريع القوانين، التي تربط الودائع بالديون العامّة والمرافق السياديّة. ومصرف لبنان نفسه، يسهم تارة في صياغة مشروع قانون إعادة الهيكلة، بحسب مندرجات خطّة التعافي المالي، قبل أن يغسل يديه من مشروع القانون والخطّة معًا.
في خلاصة الأمر، كل ما يجري يصب في الخانة ذاتها: إعادة الهيكلة المصرفيّة الجديّة ممنوعة، والمسموح هو أي خيار آخر يحمّل خسائر المصارف لعموم اللبنانيين، وإن لم تُعالج أزمة الودائع فعلًا. أمّا أخطر ما في الوضوع، فهو أن جميع هذه الألاعيب التي تجري في ميزانيّة مصرف لبنان، يتم رصدها من قبل حملة سندات اليوروبوند، المتأهبين لمقاضاة الدولة ومحاولة الحجز على ذهب لبنان المودع في الولايات المتحدة الأميركيّة. هؤلاء، باتوا يملكون ما يكفي من أوراق قانونيّة ضد الدولة ومصرفها المركزي، بعدما ذهب هؤلاء بعيدًا في أعمال التحايل الخارجة عن بديهيّات الشفافيّة الماليّة والمحاسبيّة.
علي نور الدين