يتساءل الجميع لماذا ندور باستمرار حول نقطة الصفر؟ إذ نتقدم خطوتين إلى الأمام، ثم نتراجع أشواطاً إلى الخلف، من دون أن يُنفذ أي قرار أو أي مشروع أو أي إصلاح. فلماذا ندور حول نقطة الصفر من دون إيجاد أي مخرج في هذه الحلقة المفرغة؟ وكم نستغرق من الوقت كي نسلك طريق التنفيذ؟
ليس سراً، إنّ طريقة إدارة الأمور في لبنان تتبّع ما يُسمى بـ«الديموقراطية التوافقية»: هناك تناقض عميق في هاتين الكلمتين، لأن الديموقراطية تعني الإدلاء بالرأي ومنافسة الأفكار والمشاريع، وإقناع الغير ومن ثم التصويت للخيارات.
أما التوافق فيعني أن الكل عليه أن يكون على رأي موحّد، وأي جهة يُمكنها المقاطعة ووقف التنفيذ والتقدم. وهذا ما نواجهه في لبنان منذ عقود.
فأيّ قرار أو مشروع سيستغرق سنوات طويلة، ما بين البحث والمناقشة والتجاذبات، والتدخلات الداخلية والإقليمية والدولية، حتى الوصول إلى توافق تام وقرار نهائي. وحتى لو وصلنا إلى هذا الهدف الصعب، فإنه يتغيّر عند بعض المسؤولين والمعنيين، ونعود إلى نقطة الصفر، لإعادة المناقشة من جديد، في أجواء مختلفة، ويُشل القرار والتنفيذ من جديد. فندور حول نقطة الصفر من دون أي تقدم لا بل مع تراجع مستدام.
نتذكّر بأسف الحرب العدوانية في جنوب لبنان في العام 2006، وعدد الضحايا والأبرياء، والتدمير الكارثي. فبعد شهر ونصف شهر على هذه الحرب، وتدخُّلات الأمم المتحدة توصّل الأقطاب إلى قرار 1701، لإسكات المدافع ووقف التدمير، لكن يا للأسف لم يُطبّق هذا القرار من جميع الجهات، وها نحن في حرب جديدة، مع تداعيات خطرة جداً.
على الجميع أن يعلم أنه لن يصدر أيّ قرار جديد أو تعديل للقرارات السابقة من الأمم المتحدة، قبل تنفيذ القرار 1701. فهذا مَثل واضح كيف نتقدم خطوة إلى الأمام نحو السلام، ومن ثم نتراجع أشواطاً نحو الحرب والتدمير، من دون أي نية من جميع الجهات، تنفيذ القرارات ووقف الحروب.
المثل التالي الجاذِب، هو الأزمة المالية والنقدية في لبنان، والتي بدأت منذ نحو 5 سنوات، من دون أي تقدم أو تنفيذ، وأي إدارة للأزمة أو إصلاحات. نذكّر هنا بأسف أيضاً أنه منذ عامي 2018 – 2019 قامت شركة «ماكنزي»، وهي من أكبر الشركات للدراسات المالية والإستراتيجية، بإصدار مشروع مكوّن من 1274 صفحة بإعادة هيكلة ونهوض الإقتصاد اللبناني، وقد كان هذا المشروع متّفق عليه من قبل جميع الجهات السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
وها نحن اليوم في مواجهة هذا الإنهيار التام، والكل يبحث عن خطة خلاص، وهناك مشروع متّفق عليه وقابل للتنفيذ مع بعض التعديلات، وهو مدفون في أدراج المنصات الرسمية، فعوضاً عن الانطلاق من نقطة الإتفاق وهو هذا المشروع، ها نحن نتجاذب من جديد على خطط جديدة وعصا سحرية وهمية، من دون أي نيّة للإصلاح والتنفيذ.
في المحصّلة، يتبيّن من هذين المثلين البارزين، وأمثلة كثيرة في الماضي، بأن لا نيّة حقيقية لتنفيذ أي مشروع وأي قرار، لا بل محكوم علينا بأن ندور حول نقطة الصفر، من دون أي تقدم، حتى لو تفاءلنا وتقدّمنا، سنكون دائماً ضحايا بعض القرارات المخفية، وبعض الأجندات المحلية، الإقليمية والدولية، لأنه بالحقيقة ليس لنا قرار موحّد، ولا رؤية موحّدة ولا استراتيجية وخطة موحّدة، لا بل كل جهة لها استراتيجيتها وتتبع بعض الأقطاب الذين يسحبون الخيطان.
د. فؤاد زمكحل