السياسة في لبنان والعراق وسوريا واليمن وإيران طاقة سلبية استثمرت في إنتاج الشرّ للبلاد والعباد، أمّا السياسة في المملكة العربية السعودية وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة فطاقة إيجابية تمّ توظيفها لما فيه خير الوطن والمواطن.
في ميزان الربح والخسارة، تبقى الأمور على حالها في لبنان.
مكوّنات الطبقة السياسية تشتري وتبيع وقت اللبنانيين الثمين لتسجيل مكاسب خاصة لها على حساب المصلحة العامّة.
تفاوضنا برعاية عربية وأممية لإنهاء الحرب الأهلية، واليوم المشهدية ذاتها في محاولة للالتفاف على المساءلة والمحاسبة على الإبادة الاقتصادية. الرابح الأكبر هو المكوّن السياسي المجرم والفاسد والفاشل، والخاسر الدائم في كلّ الحروب هو المواطن المستهلك المُهلَكْ صاحب الدخل المحدود، وصاحب المؤسّسة المحبط.
بعد خمس عشرة سنة من الحرب اللاأهلية قرّرت أحزاب لبنان برعاية ومباركة عربيّتين ودوليّتين وقف الحرب. لن أخوض في تفاصيل آلية الانتهاء من هذه الحرب، لكنّ المهمّ هو أنّ القوى السياسية فاوضت وتفاوضت مع ذاتها لإنهاء الحرب تحت عنوان “العفو العامّ”، أي على الرغم من كلّ الخسائر التي تسبّبوا بها للشعب اللبناني، تُمنع مساءلة أو محاكمة أيّ شخص مرتكب لجرائم خلال هذه الحرب. وبهذا يكون مات من مات قضاءً وقدراً! ومنطق ونهج “العفو العامّ” ما زال حيّاً في نفوس مكوّنات الطبقة السياسية عند كلّ مفترق طرق. واليوم وبعد أكثر من أربعين عاماً من الفساد والهدر من قبل الأحزاب والقوى السياسية ذاتها، وعلى الرغم من كلّ المآسي والخسارة التي تسبّبوا بها للشعب اللبناني، يريدون إنهاء و/أو حلّ هذه الأزمة باعتماد المنهجية ذاتها: “عفا الله عمّا مضى”، وليتحمّل المواطن اللبناني الخسارة المادّية والمعاناة النفسية. ليس سرّاً الحديث عن أنّ توزيع الخسائر دائماً يتقدّم على موضوع إقرار وتنفيذ أيّ إصلاح قد يمسّ بالمكاسب السياسية لأيّ من مكوّنات الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكّمة، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه ولم تؤخذ العبر من أخطاء الماضي. من الطبيعي أن لا نعتبر “مشروع القانون” إصلاحاً أو محاولة للإصلاح، أوّلاً لأنّ العبرة تكون في النتائج، وثانياً لأنّ كلّ هذه المشاريع ولدت ميتة، وليس ذلك صدفة، وكأنّ وراء أيّ اقتراح قانون توزيع أدوار بين مكوّنات السلطة ليصار إلى عدم إقراره في قانون مع محافظة كلّ مكوّن من مكوّنات الطبقة السياسية على مكاسبه. وفي النهاية يكون الفشل بمفهوم السلطة الحاكمة إنجازاً.
السياسة في لبنان والعراق وسوريا واليمن وإيران طاقة سلبية استثمرت في إنتاج الشرّ للبلاد والعباد
لمن واكب مجريات الحرب الأهلية يتذكّر من دون أيّ تردّد أو شكّ كم سَجَّلَ عدّاد اتفاقات وقف النار. آلاف المرّات توقّفت وعادت واندلعت الحرب من دون أن يكون لدينا أيّ تفسير منطقي لأيّ من هذه الخطوات. أيضاً ليس عجيباً أنّ هناك مستفيدين في أوقات الحرب كما في أوقات السلم وكأنّ اتفاقاً ضمنياً لوقف الحرب وإشعالها لإعطاء مساحة كافية ووافية لكي يستفيد الجميع. هذه الاضطرابات كانت نعمة تجّار الحرب ونقمة المواطن اللبناني. المشهدية ذاتها تتكرّر اليوم مع الأحزاب والتكتّلات السياسية الحاكمة في زمننا هذا، لكن هذه المرّة الحرب اقتصادية والسلاح الفتّاك هو الدولار وداعمو تجّار الحرب هم تجّار المال، وكلّ واحد منهم يدّعي العفّة والطهارة والفناء من أجل الحفاظ على لقمة عيش المواطن وأنّهم خلال الحرب كانوا يريدون الحفاظ على حياة المواطن.
خبراء الحرب الاقتصادية
في أيام الحرب أصبح كلّ واحد منّا خبير بالأسلحة والذخيرة واستراتيجية القتال وحرب الشوارع، واليوم يقبع داخل كلّ كائن حيّ في لبنان محلّلٌ اقتصاديّ وخبير بسوق الصرف ومضارب في سوق القطع. في أيام الحرب كان هناك شرقية وغربية، اليوم هناك مصرف لبنان وجمعية المصارف وصندوق النقد الدولي. كان الحديث آنذاك عن سلاح الطامسون والكلاشنيكوف وغيرهما من الأسلحة الفردية والرشّاشة والمدافع. اليوم يوجد عندنا نوع آخر من الأسلحة. عندنا في لبنان مجموعة من الأسلحة التي هي صناعة محلّية ولدت من رحم معاناة المواطن. عندنا، إضافة إلى الـ”لولار” و”الدولار الفريش” و”البيرة” ثلاثة متحوّلات من الدولار عجزت الخزينة الأميركية عن فهمها:
1- الدولار السياسي الذي تتحكّم به مكوّنات السلطة السياسية وأدواتها وتوظّفه خدمة لمصالحها التي تأتي دائماً على حساب المواطن.
2- دولار المضارب والمحتكر الذي تتحكّم به السوق السوداء من خلال تطبيقات النهب والتضليل (تطبيقات واتس آب).
3- الدولار الاقتصادي الذي يؤثّر على لقمة عيشنا، وهو ما يعتمده التجار لتسعير سلعهم وخدماتهم، وهذا أمر طبيعي يتناغم مع طبيعة أداء المؤسّسات التي تبغي الربحية.
القاسم المشترك بينها هو غياب الرقابة المتعمّد. وكلّ واحد من هذه المتحوّلات مرتبط بالآخر عضوياً، ويتمّ توظيف أو نشر كلّ منها وفق ما يتناغم مع مكاسب و/أو أهداف مكوّنات الطبقة السياسية.
الدولار السياسي المحرّك الأساسي له هو مكوّنات الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكّمة. يخيّم الاستقرار على حركة الدولار السياسي كلّما أرادت مكوّنات الطبقة السياسية التخفيف من نقمة الشعب اللبناني وغضبه عليها لتعزيز حظوظها بكسب ودّه. ساهم مصرف لبنان، تلبية لرغبة الطبقة السياسية، من خلال عدد من التعاميم الأساسية، على الرغم من أنّها عُنونت إجرائية واستثنائية. منذ أشهر، وتزامناً مع تسلّم الدكتور وسيم منصوري حاكمية مصرف لبنان، اتّخذت مكوّنات السلطة الحاكمة والمتحكّمة بالبلاد قرار التهدئة الاقتصادية (وقف إطلاق نار جديد) وطُلب من مصرف لبنان تثبيت قرار “وقف إطلاق النار” على الأرض من خلال إرساء الاستقرار في سوق القطع الأجنبي. استقرّ الدولار ولم يعد سعر الصرف مصدر همّ ولا مصدر اهتمام للمواطن، بانتظار انتهاء هذه الهدنة والعودة إلى التراشق من جديد.
ما يحصل من خلال إصدار بيانات حاكم مصرف لبنان، وليس تعاميم تصدر عن المجلس المركزي لمصرف لبنان، يوحي بأنّ هناك رعاية سياسية للنشاطات في المشهد النقدي. إنشاء منصّة صيرفة وتوقيف العمل بها بسبب سوء الاستخدام من قبل المتداولين (استنسابية، زبائنية.. إلخ)، مع لفت النظر إلى أنّ مصرف لبنان هو الممرّ الإلزامي لإتمام أيّ عملية تبادل، واقتراح منصّة بديلة (بلومبرغ) لحلّ المشكلة من دون العودة إلى قانون تنظيم مهنة الصيرفة، أو تفعيل عمل أجهزة الرقابة. وهو وجه آخر من وجوه الفساد.
في أيام الحرب أصبح كلّ واحد منّا خبير بالأسلحة والذخيرة واستراتيجية القتال واليوم يقبع داخل كلّ كائن حيّ في لبنان محلّلٌ اقتصاديّ
تنظيم مهنة الصيرفة
نعم، يوجد في لبنان قانون تنظيم مهنة الصيرفة، وهذا القانون يُلزم:
– الحصول على ترخيص من مصرف لبنان لمن يريد ممارسة مهنة الصيرفة.
– تأمين رأس المال النظيف لتوفير الحصانة الاقتصادية لهذا النشاط.
– والتصريح الدوري للجنة الرقابة على المصارف عن كلّ العمليات.
لم تكن هذه السوق “سوداء” في أيّ وقت من الأوقات لأنّها لطالما كانت سوقاً منظّمة وتحت الرقابة المحكمة. اليوم أصبحت سوداء لأنّ:
1- هويّة المتداولين غير معروفة.
2- أصبحت أوراقاً نقدية مقابل أوراق نقدية من دون أيّ سجلّ تدقيق (Audit trail).
3- كلّ من يملك الأوراق النقدية القذرة أصبح صرّافاً من دون أيّ ترخيص و/أو إذن بمزاولة المهنة.
4- يحكمها تطبيق واتس آب التضليليّ، وهذه هي حدود مهنيّة هذه السوق.
5- ولا أحد يصرّح للسلطات الرقابية، ولا حسيب ولا رقيب.
يجب لفت النظر إلى أنّ مصرف لبنان لأكثر من سنتين من الأزمة الأخيرة لم يضع نصب عينيه هدف “الاستقرار في سعر الصرف”
المحرّك الأساسي للدولار الاقتصادي هي العوامل الاقتصادية. هو الذي يشير إلى غلاء الأسعار، ويشير إلى غلاء المعيشة والقدرة الشرائية لدخل الفرد. هو الدولار الحقيقي ويتغذّى بفعل الاضطرابات والتقلّبات بسعر الصرف ويختفي نهائياً إذا تحقّق الاستقرار بسعر الصرف. ويجب لفت النظر إلى أنّ مصرف لبنان لأكثر من سنتين من الأزمة الأخيرة لم يضع نصب عينيه هدف “الاستقرار في سعر الصرف” ولن يضعه في أيّ وقت من الأوقات، وكان التركيز دائماً على خفض سعر صرف الدولار على الرغم من الكلفة العالية لحماية الليرة. ابتدأت مؤشّرات الانعطافة الاستراتيجية في السياسة النقدية في أوائل 2023، وأصبح الاستقرار سيّد الموقف اليوم. ولكنّ هذا الاستقرار اليوم بُني على أسس ضعيفة وغير صحّية اقتصادياً لأنّ مكوّناً اقتصادياً أساسياً، وهو القطاع العامّ، أصبح خارج المعادلة والاصطفاف الاقتصادي ويعاني من “الاستبعاد الاقتصادي” (Economic Exclusion). في المقلب الآخر، ينعم أغلبية مكوّنات القطاع الخاص، من مؤسّسات وعاملين، بالشمول الاقتصادي (Economic Inclusion)، لكنّ هذه النعمة عزّزت من حجم اقتصاد الظلّ (The Shadow Economy) على حساب الاقتصاد الرسمي.
في الخلاصة، لبنان اليوم ينتظر إتمام تكوين السلطة بانتخاب رئيس للجمهورية ماروني وتكليف مواطن سنّيّ لتشكيل حكومة، ومن الواضح أنّ الصوت التفضيلي في هذا الاستحقاق هو للتسويات، والدافع هو المكاسب السياسية، والكلّ منخرط ويمتثل لقواعد الاشتباك، أي أننا ما زلنا نراوح مكاننا وقف إطلاق نار وعودة الاشتباك والتراشق بالأسلحة التي تحدّدها الظروف، الكلاشنيكوف أو الدولار، والضحيّة هي لقمة عيش المواطن! ولبنان يُجمّد الحلول والإصلاحات لأنّه على موعد مع “عفو عامّ” عن الإبادة الاقتصادية لتبقى مكوّنات الطبقة السياسية الحكَم والحاكم بأمر الوطن والمواطن.
محمد فحيلي