الملفات القانونيّة جاهزة: الدائنون يريدون الذهب والاحتياطات

لم يعد الحديث عن المعركة القانونيّة المقبلة، مع الدائنين وحملة سندات اليوروبوندز، مجرّد تكهنات وتوقعات في الهواء. المسألة باتت مؤكّدة وحتميّة. ثمّة دراسات استشاريّة وقانونيّة جرى إعدادها لمصلحة أطراف خارجيّة، استعدادًا لمطالبة الدائنين باحتياطات الذهب والعملات الأجنبيّة، المودعة من قبل مصرف لبنان في الولايات المتحدة الأميركيّة. هذه الدراسات، انطلقت من نصوص عقود إصدار سندات اليوروبوند، لتُبيّن تورّط الحكومة اللبنانيّة مع مصرفها المركزي، في أعمال احتياليّة تحمّل الأصول والأموال العامّة خسائر القطاع المصرفي. والهدف النهائي والواضح، ضرب الحصانة القانونيّة التي يتمتّع بها المصرف المركزي في الولايات المتحدة، بعد إثبات عدم استقلاليّته الماليّة والإداريّة، وصولًا إلى حجز موجوداته.

“مسؤوليّة الدولة” عن خسائر المصارف. هذا الشعار البرّاق والجميل، سيكون عنوانًا للتفريط بآخر ما تبقى من موجودات في القطاع المالي والمصرفي، من دون أن تتمكّن الدولة من سد هذه الخسائر بالفعل. حين تنهمر الدعاوى على الدولة في محاكم نيويورك، وحين تكون موجودات مصرف لبنان في مرمى الدائنين الأجانب، فليتذكّر اللبنانيون هذا الشعار جيّدًا. وليتذكّروا أيضًا أعمال التزوير والتحايل في ميزانيّة مصرف لبنان، التي لم يتم تصحيحها أو التراجع عنها حتّى هذه اللحظة. هذه الأعمال، التي حوّلت جزءًا من خسائر المصارف إلى دين على الدولة، ستكون سلاح الدائنين القاتل. والمودع، صاحب الحق الأوّل بموجودات المصرف المركزي، هو أوّل من سيدفع الثمن!

عقود إصدار سندات اليوروبوندز
الدراسات القانونيّة التي جرى إعدادها استندت إلى عقود إصدار سندات اليوروبوندز، التي ترعى علاقة الدائنين وحملة السندات بالدولة اللبنانيّة.

آخر العقود الصادرة عام 2018، استعرضت بشكل واضح -في الصفحة 93- ميزانيّة المصرف المركزي، والتي أظهرت رصيد “صفر” بجانب بند الإلتزامات المتوجّبة على القطاع العام اللبناني، لمصلحة المصرف. مع الإشارة إلى أنّ هذا البند لا يشمل محفظة السندات السياديّة التي يملكها المصرف بالليرة والدولار، والتي يتم التصريح عنها في بندي الموجودات الخارجيّة ومحفظة السندات. مع الإشارة إلى أنّ هذه الأرقام تتسق مع حجم الدين العام، المُصرّح عنه في العقود نفسها.

بند الإلتزامات المتوجبة على القطاع العام، سينتفخ ليسجّل رصيدًا قيمته 16.5 مليار دولار أميركي في شباط 2023، بناءً على اجتهادات الحاكم السابق للمصرف رياض سلامة. يومها، قرّر سلامة احتساب الدولارات التي باعها للقطاع العام منذ العام 2007، كديون على الدولة، لمصلحة المصرف المركزي، من دون تثبيت هذا الدين بأي موجب أو سند قانوني أو نص تشريعي. الفكرة كانت ببساطة: تحميل الدولة والمال العام جزءًا من الخسائر المصرفيّة المتراكمة.

على هذا الأساس، بات المصرف المركزي متورّطًا في عمليّة إحتياليّة تؤثّر على حجم مخاطر الدين السيادي اللبناني، وذلك وفقًا لمنظور التالي بحسب الدائنين:

– إذا كان الدين الذي سجّله سلامة في شباط 2023 دينًا جائرًا، بوصفها ديونًا غير مشروعة، فالمصرف متورّط في تحميل الدين العام اللبناني كلفة إلتزامات غير محقّة. وهي إلتزامات تعوّض عن خسائر مصرفيّة، ناتجة عن تراكم الفجوة في ميزانيّة مصرف لبنان. وهذا احتيال سيتحمّل كلفته الدائنون الآخرون، أي حملة السندات.

– أمّا إذا وجدت الدولة اللبنانيّة، وهي المدين في هذه الحالة، أنّ الديون محقّة، فالمصرف متورّط بإخفاء هذه الديون منذ العام 2007. وبهذا الشكل، تكون الدولة والمصرف قد ساهما معًا بغش حملة السندات، عبر تقديم معلومات مغلوطة، لتخفيف مخاطر الدولة المتوقّعة عند تسويق اليوروبوندز في أسواق الدين العالميّة.

أعمال التزوير
ببساطة، ما تم التصريح عنه في عقود إصدار اليوروبوندز غير مطابق للميزانيّة التي يعرضها مصرف لبنان اليوم، وحملة السندات يعتبرون أن العمليّة الاحتياليّة -وبمعزل عن طبيعتها- تؤثّر على حجم المخاطر المرتبطة بسنداتهم. وفي جميع الحالات، المصرف المركزي مسؤول بالتكافل والتضامن عن هذه العمليّة، التي تثبت عدم استقلاليّته الماليّة أو الإداريّة. ومن هذه الزاوية، يراهن الدائنون على إسقاط الحصانة التي يتمتّع بها المصرف أمام محاكم نيويورك، وهو ما يفتح المجال أمام المطالبة القانونيّة باحتياطات الذهب والعملات الأجنبيّة الموجودة في الولايات المتحدة.

أعمال التزوير في ميزانيّة المصرف المركزي، والتي سجّلت هذه الديون على الدولة لمصلحة المصرف، تم تسويقها أو تبريرها محليًا من باب تحميل الدولة مسؤوليّة الخسائر المصرفيّة، أو تحميلها مسؤوليّة التعامل مع أزمة الودائع. غير أنّ الواضح هنا هو أن هذه الأعمال تتجه لتحميل مصرف لبنان، وآخر ما تبقى من موجوداته السائلة، مسؤوليّة تخلّف الدولة عن سداد سنداتها. وفي المقابل، من الواضح أن الدولة لا تملك اليوم -ولن تملك في المستقبل- القدرة على سد هذه الخسائر. بهذا المعنى، سيكون المودع أوّل المتضرّرين من هذه الفكرة، التي سعت لها جمعيّة المصارف منذ العام 2020.

جريمة رهن أصول الدولة
في الصفحة 130 من عقود إصدار السندات، ثمّة تعهّد واضح من الدولة اللبنانيّة -للدائنين وحملة السندات- بعدم رهن أي أصول أو إيرادات مستقبليّة عامّة، مستقبليّة أو حاليّة، لمصلحة أي دائن آخر، سواء كان هذا الدين مرتبطًا بالدولة نفسها أو بطرف ثالث (مثل المصرف المركزي اللبناني، بوصفه كيانًا يتمتّع بالاستقلاليّة الماليّة المزعومة في القانون). وفي حال أرادت الدولة رهن هذا النوع من الأصول والإيرادات، لأي دائن، فعليها أن تقوم بالمثل تجاه حملة سندات اليوروبوندز.

هذا البند، يمثّل السلاح القانوني الثاني الذي يملكه حملة السندات، والذي سيُستعمل ضد الدولة ومصرفها المركزي معًا. فحتّى هذه اللحظة، بات في المجلس النيابي ثلاثة اقتراحات لقوانين تُجمع على رهن واستثمار الأصول والإيرادات العامّة لإطفاء الخسائر المصرفيّة، وتحديدًا تلك المتراكمة في ميزانيّة مصرف لبنان. وهذا المقترح، الذي ولد في رحم جمعيّة المصارف، بات شعارًا يردده المسؤولون اللبنانيون تحت عنوان “مسؤوليّة الدولة” عن الخسائر. أو بصورة أوضح: بات طرح معالجة الخسائر على هذا النحو، هو البديل المطروح عن إعادة الهيكلة الشاملة والفعليّة للقطاع المصرفي.

من الواضح أنّ كل هذه الأفكار تتعارض بشكل جذري مع مضمون عقود إصدار سندات اليوروبوندز، وتطبيقها سيعني مطالبة الدائنين برهونات وامتيازات مماثلة لتلك التي تمنحها الدولة لإطفاء الخسائر المصرفيّة. ومن ناحية أخرى، سيراهن الدائنون على هذه المعالجات لإثبات -مجددًا- عدم استقلاليّة المصرف المركزي الماليّة، خصوصًا أن الدولة ستكون قد رهنت إيراداتها وأصولها لإطفاء خسائر مرتبطة بمهامه كسلطة نقديّة وكناظم للقطاع المصرفي.

في الخلاصة، من الواضح كل الذين حملوا شعار “مسؤوليّة الدولة” -أي المال العام- عن الخسائر المصرفيّة، لم يراجعوا مضمون عقود إصدارات سندات اليوربوندز، كما لم يراجعوا حجم المخاطر المرتبطة بالأفكار التي يطرحونها. المشكلة الأهم، هي أن المصرف المركزي لم يعالج بعد أعمال التزوير التي طرأت على ميزانيّته في شباط 2023، والتي أفضت إلى إضافة دين الـ16.5 مليار دولار، على كاهل الدولة اللبنانيّة. وبذلك، يكون المصرف المركزي قد استمرّ حتّى هذه اللحظة بعمليّة ذات طابع احتيالي، إمّا لكونها قد أضافت دينًا جائرًا، أو لكونها قد أخفت هذا الدين في مراحلة سابقة. في الحالتين، ثمّة مسؤوليّة قانونيّة سيتحمّلها المصرف أمام الدائنين.

علي نور الدين