حالة المراوحة هذه، كما هو واضح، تعكس عدم ثمة الأسواق بجديّة هذه الخطوة، أو بتأثيرها على مستقبل السندات وقيمتها. مع الإشارة إلى أنّ أسعار السندات الراهنة لم ترتفع إلا بنحو 0.38 سنت منذ بداية العام الراهن.
فكرة “إعادة الشراء” جيّدة ولكن..
فكرة “إعادة الشراء” مطروحة منذ العام 2021، وهي تقوم على لجوء الحكومة للتفاوض مع بعض حملة السندات، عبر جهة وسيطة يمكن أن تكون مصرفًا استثماريًا أجنبيًا، لشراء جزء من سندات اليوبوندز المتداولة في السوق.
وبما أنّ السندات مُتداولة بأسعار متدنية جدًا، مقاربة بقيمة السندات الإسميّة، فسيكون بإمكان الحكومة التخلّص من جزء كبير من الدين بالعملة الصعبة، وباقتطاع كبير جدًا من قيمة الدين الأصليّة. الفكرة بحد ذاتها ليست سيئة، لكن آليّات تطبيقها تفرض الكثير من العقبات والقيود التي تحد من تأثيرها وفعاليّتها.
فعقود إصدار السندات لا تسمح للحكومة بإعادة شراء أكثر من 10% من إصدارات أي شريحة من شرائح السندات، إلا بموجب عرض للشراء عام وعلني. وهذا ما يفسّر اقتصار الحديث حاليًا على شراء 3 مليار دولار فقط من السندات المتداولة، وهو ما يقل عن 10% من قيمة السندات الإجماليّة، البالغة نحو 31.3 مليار دولار أميركي. وبهذا الشكل، وفي حال شراء السندات بأسعار قريبة من سعر السوق الحالي، ستكون الحكومة قد تخلّصت من 3 مليارات دولار من الديون السياديّة، بكلفة لا تتجاوز 210 مليون دولار أميركي.
التمكّن من التخلّص من جزء من هذه الديون، وبهذه الكلفة المنخفضة، سيمثّل تطوّرًا إيجابيًا بالنسبة للحكومة اللبنانيّة، خصوصًا أن أي إعادة هيكلة مقبلة للدين العام لن تتمكّن من حسم هذه النسبة من الديون.
ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أنّ حسابات السوق قد لا تتطابق دائمًا مع حسابات الحكومة. فبمجرّد دخول الخطّة حيّز التنفيذ، وبمجرّد بدء الحكومة بشراء جزء صغير من هذه السندات، ستشهد أسعار السندات ارتفاعًا تدريجيًا يقلّص من فعاليّة العمليّة بأسرها. ولهذا السبب، من الواضح أنّ عدم تأثّر الأسعار حاليًا يدل على عدم تفاؤل السوق بقدرة الحكومة على مباشرة هذه العمليّة منذ الأساس.
“إعادة الشراء” ليست بديلًا عن إعادة الهيكلة
على المقلب الآخر، ثمّة إشكاليّات أخرى لا تأخذها الخطّة بالاعتبار. إذ تتسم أسواق اليوروبوندز اللبنانيّة بتركّز كبير على مستوى الجهات المالكة للسندات، حيث يملك أكثر من 70% من السندات المتداولة مجموعة صغيرة من المستثمرين المتخصّصين بالأسواق ذات المخاطر المرتفعة.
وبالنسبة إلى بعض شرائح السندات، ترتفع هذه النسبة إلى مستويات أعلى بكثير. وبهذا المعنى، قد لا تتمكّن الحكومة من فرض شروطها بسهولة، ومن ثم شراء النسبة المستهدفة في كل إصدار. بل قد يكون من المتوقّع أن يفضّل المستثمرون المخضرمون الدخول في مسار إعادة الهيكلة، الذي يحقّق لهم “نسبة استرداد” أعلى، من أصل قيمة الاستثمار الإجمالي.
وعلى أي حال، من الأكيد أن فكرة “إعادة الشراء” لا يمكن أن تنوب مكان مسار إعادة الدين العام بأي شكل من الأشكال. فاحتمال شراء السندات، سيبقى محصورًا بجزء صغير جدًا من إجمالي السندات الموجودة، وشراء هذا الجزء سيفضي إلى ارتفاع أسعار سائر السندات المتداولة كما أشرنا. وهذا ما سيفرض الذهاب إلى طاولة المفاوضات مع الدائنين، للتوصّل إلى حلول بالنسبة للديون العالقة.
الوقت يضيق للقيام بإعادة الهيكلة
حتّى اللحظة، يخضع حملة سندات اليوروبوند إلى “بنود العمل الجماعي”، التي تعامل حملة كل شريحة من السندات مجموعة واحد، يمكن أن تخضع لاتفاق الدولة مع 75% منهم. إلا أنّ هذا الوضع سيتغيّر، بمجرّد حصول كل دائن على حكم قضائي، يفرض على الدولة اللبنانيّة سداد قيمة الدين. عند تلك اللحظة، ستتحوّل صفة المستثمر من “دائن” إلى “مستفيد من حكم قضائي”. وهنا، سيكون على الدولة التفاوض مع كل مستثمر على حدة، للتفاهم على مصير ومستقبل دينه. وبهذا، ستخسر الدولة الكثير من الأوراق التفاوضيّة، التي يمكن استخدامها لإعادة هيكلة الدين العام.
المهلة التي تملكها الدولة اللبنانيّة، قبل الانتقال إلى هذا السيناريو الكارثي، تضيق بمرور كل يوم. في آذار المقبل، أي بعد 10 أشهر، سيخسر كل دائن حقّه في فوائد السندات، إذا لم يباشر بالإجراءات القضائيّة وبالمطالبة القانونيّة بحقّه. لذلك، على الدولة اللبنانيّة أن تحضّر نفسها لمواجهة دعاوى الدائنين، قبل الوصول إلى هذه النقطة الخطيرة. ومن المهم الإشارة إلى أنّ الدولة لم تبدأ بعد بأبسط الخطوات المطلوبة منها لبدء مسار إعادة الهيكلة، من قبيل تحديد هويّات الدائنين وملكيّة السندات، ومن ثم بدء التفاوض على شروط إعادة جدولة سندات.
لكل هذه الأسباب، لا يتجاوز الحديث عن فكرة إعادة شراء السندات حدود شراء الوقت، أو ربما تضييعه في عمليّات محدودة الأثر، مقارنة بالمعالجة الشاملة المطلوبة. فإعادة شراء السندات كان يمكن أن تقلّص كلفة الدين العام قبل سنة أو سنتين، إلا أنّ الاقتراب من مرحلة الدعاوى القانونيّة، ومخاطر صدور القرارات القضائيّة لمصلحة الدائنين، تفرض الشروع بالتفاوض لإعادة الهيكلة فورًا. مع العلم أن وضع خطّة لإعادة هيكلة الدين العام، هي أساسًا أحد شروط الصندوق النقد لقبول لبنان في برنامج تمويلي، وهي خطوة لا يمكن التملّص منها لعودة لبنان إلى أسواق المال الدوليّة.
بصورة أوضح: لا يمكن تخيّل أي مسار للتعافي المالي قبل وضع تصوّر لكيفيّة إعادة هيكلة الدين العام.
علي نور الدين