ليس جديداً على اللبنانيين إقبالهم الكثيف على شراء الذهب غير المصاغ. فحركة الشراء سجلت ارتفاعات متتالية من قبل اللبنانيين على مدار السنوات الماضية. وقد بدت لافتة عام 2023 من قبل المغتربين تحديداً، بالتزامن مع أزمة الإفلاسات التي ضربت بعض مصارف الولايات المتحدة الأميركية، والمخاوف من تمدّد الانهيارات إلى أوروبا ودول الخليج. ولم يقتصر الإقبال على شراء الذهب على المغتربين فحسب، بل على المقيمين أيضاً، الهاربين من القطاع المصرفي والباحثين عن ملاذات آمنة للإدخار والاستثمار.
وقد ترجمت أرقام استيراد الذهب الإقبال الكثيف على شراء السبائك بمختلف الأحجام، وقارب حجم الاستيراد الملياري دولار عام 2023. لكن مسألة الإقبال على شراء الذهب بهدف الإدخار أو الاستثمار لا تعبّر عن قناعة العديد من خبراء الاقتصاد والباحثين. فهؤلاء يتخوّفون من أن تضمر عمليات الإتجار بالذهب عمليات تبييض أموال ونشاطات مشبوهة، في وقت يعتبر البعض الآخر أن ارتفاع الطلب على الذهب ما هو إلا بحث عن الملاذ الآمن.
ملجأ للادخار
بحسب أرقام الجمارك اللبنانية، ارتفع استيراد اللؤلؤ والأحجار الكريمة وشبه الكريمة والمعادن الثمينة عام 2023 بنسبة 104 في المئة عما كان عليه في العام السابق، منها ما يزيد عن 35 طناً من الذهب الخالص. ويرى نقيب تجار الذهب والمجوهرات نعيم رزق، في حديثه إلى “المدن”، أن استيراد الذهب يفوق التصدير بعدة أضعاف عام 2023. ومرد ذلك إلى تخوف الناس من إدخار المال نقداً في المصارف أو في البيوت. ومنهم من يشتري الذهب الخالص لجني الأرباح، في ظل توجه الذهب إلى الصعود منذ أشهر، وتهافت البنوك المركزية على إدخاره.
عشرات الأطنان من الذهب تم استيرادها بين الأعوام 2021 و2022 و2023. أما شراء المواطنين، فيتركّز على الأونصات والسبائك الكبيرة المقدّرة بالكيلوات، يقول رزق.
من جهة أخرى، يتزايد حجم الإقبال على شراء سبائك الذهب والأونصات من “القرض الحسن”، من خلال تقسيط ثمنها على مدار أشهر أو سنوات. وبحسب مصدر رفيع من “القرض الحسن”، فاللبنانيون يقبلون على رهن ليرات وأونصات الذهب. مما يعني أنهم يقبلون على شراء هذا النوع من الذهب باعتباره ملاذاً آمناً، وليس للزينة فقط. أما أخذ حركة بيع الذهب من قبل القرض الحسن كمؤشر على إلإقبال على الذهب، فيعود لكونه المؤسسة شبه الوحيدة التي توفر خدمة تقسيط اونصات الذهب والليرات والسبائك من قبل محدودي المداخيل. وقد لوحظ ارتفاع الطلب بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية.
تبييض الأموال القذرة
نظرية الإقبال على الذهب كملاذ آمن لا يراها العديد من خبراء الاقتصاد صائبة، لاسيما عند مقارنة حجم الاستيراد مع التصدير. فكمية الذهب التي دخلت لبنان عام 2023 تراوحت بين 35 طناً و37 طناً. وهي تقارب كمية الذهب المصدّرة من لبنان إلى الخارج في السنوات القليلة الماضية لاسيما من العام 2019.
من هنا يربط الباحث الاقتصادي عباس الطفيلي، بين أرقام استيراد وتصدير الذهب منذ عام 2019 ويترجمها على أنها تبييض لأموال مشبوهة. ويقول في حديث إلى “المدن” إنه لا بد من ربط حركة الذهب في لبنان بارقام العام 2019، فنلاحظ أنه في العام 2019 تردّد كثيراً عن حركة تهريب الأموال إلى الخارج. وعند التدقيق أكثر نلاحظ أنه من حزيران 2019 و2020 بدأت تخرج من لبنان كميات هائلة من ذهب.
وقد خرج من لبنان ما يقارب 35 إلى 37 طناً من الذهب. ودائماً ما كانت ذرائع تجار الذهب لتفسير تلك الأرقام بأن السوريين هم من يخرجون أموالهم بهذا الشكل. ويسأل الطفيلي، لماذا لم يُخرج السوري الذهب عام 2018 أو 2017 وما قبله؟
ويرى الطفيلي بأن أرقام الاستيراد مبالغ فيها. ففي العام الفائت بلغت كميات الذهب التي دخلت إلى لبنان ضعف ما دخل عام 2022، وأسعار الذهب بتصاعد من العام 2022 “إذاً، لماذا الارتفاع بالكميات عام 2023؟”. ويربط الباحث الاقتصادي بين حركة استيراد الذهب ومستوى تفاقم الأموال الكاش بالسوق “فكمية الكاش المبالغ فيها ناجمة عن أسالبيب مشبوهة أيضاً، ولا يمكن إنكار ذلك. وهناك حركة تبييض أموال كبيرة من خلال الذهب”.
ويصف الطفيلي مسألة تبييض الأموال عبر قطاع الذهب بالأمر الخطير جداً “لأن الذهب من القطاعات التي استمرت بالرغم من كل الأزمات والحروب. لذلك، بات هناك مخاطر على القطاع”، لاسيما أن قرابة 800 مليون دولار إلى مليار دولار من ميزان المدفوعات مصدرها الذهب الداخل إلى لبنان.
عزة الحاج حسن