فيما يحاول رئيس حكومة تصريف الاعمال العثور على صيغة منقّحة لخطة اعادة الانتظام الى العمل المصرفي، يمكن ان تحظى بموافقة الاطراف السياسية الرئيسية، لا تبدو نسب نجاح هذا المسعى أفضل بكثير من نسب الخطط السابقة التي سقطت تباعاً.
تتعاطى الطبقة السياسية مع ملف الانهيار القائم منذ العام 2019، على أساس انه مثل غيره من الملفات، مجرّد «منصة» يمكن استخدامها للتجييش السياسي. هذه العقلية المريضة المرتبطة بالمناخ السياسي العقيم السائد في البلد، هي التي تجعل امكانية الوصول الى حلٍ للأزمة، من الامور الصعبة، لئلا نقول المستحيلة.
ولا تشذّ حكومة تصريف الاعمال عن هذا المنحى الأعوج. ويتم التعاطي مع الملف على طريقة «ما يطلبه المستمعون». وحتى اليوم، تصرفت الحكومة وفق نهجَين يصبّان في خانة واحدة.
النهج الاول يقضي بإرضاء صندوق النقد الدولي، ومن خلاله المجتمع الدولي، من خلال خطط تتضمّن مشاريع تؤدي الى شطب الودائع، لتسهيل تنفيذ برامج التمويل مع صندوق النقد في حال إقرارها.
النهج الثاني، ينصّ على توريد الخطط التي لا يمكن ان ترى النور يوماً، الى المجلس النيابي لكي يتخبّط بها النواب، ويتم رفضها. وبهذه الطريقة تكون الحكومة قد قامت بواجباتها، كما تريد أن تدّعي، وحمّلت مسؤولية الفشل الى المؤسسة التشريعية.
موقف الحكومة هذا لا يعني ان المجلس النيابي لا يتحمّل مسؤولية استمرار الانهيار منذ خمس سنوات، بل العكس صحيح. وكان حريٌ بالمجلس ان يتحمّل مسؤولياته في سَنّ القوانين الاصلاحية المطلوبة، لكنه تقاعس.
لكن المشكلة الاساسية تكمن في نهج الانكار والكذب والادّعاء. وهذا السلوك ينبغي ان يتوقّف في مكان ما، قبل ان نصل الى نقطة اللاعودة. وهذا يعني انه بات مطلوباً من «الدولة» ان تتخلى عن منطق إسماع الناس ما يرغبون في سماعه، وتنتقل الى منطق مصارحة المواطنين بالحقائق لكي يُبنى على الشيء مقتضاه.
وفد صندوق النقد أكد هذا الامر اكثر من مرة في خلال وجوده في بيروت، لأنه كان يستمع الى تساؤلات متكررة حول دوره في تأييد شطب الودائع، وكان جوابه الدائم ان لا علاقة له بقرار الشطب، لكن هناك خسائر بحوالى 70 مليار دولار، من يريد ان يردم هذه الفجوة، عليه ان يفسّر ويُقنع الصندوق والمجتمع الدولي واللبنانيين، من أين وكيف ومتى سيتم تأمين هذا المبلغ. وكل ما عدا ذلك كلام بكلام، وفق قناعة صندوق النقد.
اليوم، ولأن مستشار رئيس الحكومة الوزير السابق نقولا نحاس ينكبّ على دراسة خطة جديدة يمكن طرحها على طاولة مجلس الوزراء، لتكون بديلاً من الخطة السابقة التي رُفضت من قبل معظم الاطراف المعنية، كما رفضت من قبل عدد كبير من الوزراء، لا بد من تذكيره بضرورة ان تتضمّن الخطة خريطة طريق واضحة لكيفية اعادة الودائع. وهذا يعني ان الدولة ينبغي ان تشارك في دفع ديونها والتزاماتها للمساهمة في سد الفجوة. ولكي تصبح التعهدات واقعية، لا بد من اصلاحات جذرية في القطاع العام تؤدي الى تكبير حجم الايرادات بنسَب مرتفعة. ومن دون ان تتغير طريقة عمل القطاع العام، لا أمل في تحسين الايرادات. فهل يمكن ان تُقدم حكومة تصريف اعمال على تغييرٍ من هذا النوع، لم يحصل رغم الوعود المتكررة منذ عقود؟
هذا السؤال يُعيدنا الى احد الاجتماعات التي عقدتها السفيرة الاميركية السابقة دوروثي شيا، مع مسؤولين لبنانيين أسهبوا في شرح الخطط التي سيتمّ اتّباعها لتحسين اداء القطاع العام، وزيادة مداخيل الخزينة. وقد استمعت شيا الى الشروحات. وبعد انتهاء تقديم الافكار، نظرت الى المستشار الاقتصادي الاميركي الذي كان معها، وسألته عن رأيه بكل ما قيل لأنه كان صامتاً طوال الاجتماع، فكان جوابه المختصر: كل هذه الافكار نسمعها منذ اكثر من 30 سنة، ولم يتم تنفيذ ولَو فكرة واحدة منها، فلماذا قد نصدّق اليوم انها ستنفّذ؟ ماذا تغيّر لكي نصدّق اليوم وعوداً لم تنفّذ على مدار عقود؟
لذلك يصعب التصديق ان الخطة الجديدة الموعودة ستكون افضل من سابقاتها، لأن المشكلة تكمن في الثقة المفقودة اولاً. ومن اين قد تأتي الثقة، اذا كان الوعد بحل اشكالية تحديد سعرٍ للدولار المصرفي، والوعد تكرّر على لسان رئيس حكومة تصريف الاعمال، وحدّد نهاية أيار حداً أقصى لتنفيذه، وحتى اليوم لم ينفّذ. فمَن يعجز عن الوفاء بوعدٍ بحجم هذه الاشكالية البسيطة، هل يمكن الرهان على وعوده بمعالجة قضية بحجم الانهيار المالي القائم في البلد؟
أنطوان فرح