صناع السياسة النقدية في أوروبا سيجدون أنفسهم مكبلين بسبب مخاطر تقلب أسواق العملة
انضم “البنك المركزي الأوروبي” إلى “بنك كندا” الأسبوع الماضي في إطلاق دورة جديدة من خفض أسعار الفائدة، ومن المنتظر أن يأتي في أثرهما خلال الأشهر القليلة المقبلة صناع السياسة النقدية في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
أملت التطورات الاقتصادية المحلية هذه الإجراءات على البنكين المركزيين. ومع ذلك، فإن التخفيضات الإضافية المتعددة من جانب البنوك المركزية، والبنك المركزي الأوروبي خصوصا يمكن أن يتم تقليصها قبل الأوان بسبب المخاوف بشأن كيفية استجابة أسواق العملات في حال أرجأ “الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي” إجراءاته التيسيرية.
يتفاقم هذا الخطر بسبب الاعتماد المفرط على أسلوب رد الفعل في السياسة النقدية التي يتبعها “الاحتياطي الفيدرالي”، إضافة إلى هدف التضخم الذي حدده بنسبة 2 %، وهو مستوى منخفض للغاية بالنسبة لعالم يتآكل فيه تأييد العولمة، ويتغير فيه مسار إجماع واشنطن على التحرير وإلغاء القيود والانضباط المالي إلى الوجهة العكسية بوتيرة متسارعة.
وفي مسألة خفض تكاليف الاقتراض، قال محافظ “بنك كندا” تيف ماكليم يوم الأربعاء: “من المنطقي أن نتوقع مزيدا من تخفيضات سعر الفائدة”، استنادا إلى آفاق الاقتصاد الحالية.
يميل “البنك المركزي الأوروبي” إلى الحذر الشديد في توجيهاته المتعلقة بالسياسة النقدية المقبلة، ومع ذلك نلاحظ أنه انتهى إلى خفض أسعار الفائدة للمرة الأولى منذ عام 2019 قبل كل من “بنك إنجلترا” و”الاحتياطي الفيدرالي”، وذلك رغم تأخره بعدهما في دورة رفع الفائدة، وأنه لم يرفعها بنفس القدر.
بيانات اقتصادية ضعيفة
معظم البيانات الاقتصادية الأخيرة من دول مجموعة السبع، وإن لم تكن كلها بالتأكيد، تتسق مع نشاط اقتصادي أضعف مما توقعه كثيرون. ويطبق هذا خاصة على الولايات المتحدة، فباستثناء البيانات الإجمالية القوية التي صدرت يوم الأربعاء لقطاع الخدمات، جاءت البيانات الاقتصادية الصادرة سيئة، ومخالفة للتوقعات المجمع عليها.
أدى هذا التطور إلى ضغوط هبوطية كبيرة على كل من أسعار السلع وعوائد السندات الحكومية، وإن لم يؤثر في فروق أسعار الائتمان والأسهم تأثيرا جوهريا على الأقل حتى الآن.
وبإعادة العدسة التحليلية قليلا إلى الوراء، نجد البيانات الأخيرة متسقة مع ما اقترحته من احتمال بنسبة 35 % أن يشهد الاقتصاد الأمريكي ركودا. ليس هذا هو السيناريو الأساسي أو الأعلى احتمالا، بل هو السيناريو الذي يشار إليه عادة بتعبير “الذيل الأيسر السمين”، الذي يعبر عن زيادة احتمالات وقوع الأحداث المتطرفة، مثل الأزمات، مع وجود سيناريوهين آخرين في مجموعة الاحتمالات الخاصة بمآلات الاقتصاد، وهما احتمال بنسبة 50 % لسيناريو الهبوط السلس، وبنسبة 15 % لسيناريو “الذيل الأيمن السمين” الذي يعد ملائما لاقتصاد يحقق نموا ولكنه ليس قويا بما يكفي.
في مواجهة هذا التوزيع من الاحتمالات، آمل أن يبدأ بنك “الاحتياطي الفيدرالي” دورة خفض الفائدة في يوليو، (وأن يتحرك “بنك إنجلترا” بعد الانتخابات البريطانية). ويظل “بنك اليابان” هو الاستثناء في مجموعة السبع نظرا لأنه في بداية رحلة العودة إلى أسعار الفائدة الطبيعية بعد حقبة طويلة من تطبيق أسعار الفائدة المنخفضة للغاية.
نهج الاحتياطي الفيدرالي وهدف التضخم
إن تخفيض البنوك المركزية في مجموعة السبع باستثناء بنك اليابان أسعار الفائدة بالقيمة وبالوتيرة التي أعتقد أن التوقعات الاقتصادية تبررها، سيعتمد على مدى نجاح الاحتياطي الفيدرالي في إجراء عمليتي انتقال تأخرتا بالفعل في توجهاته وموقفه الفكري.
سيحدد ذلك أيضا ما إذا كان البنك المركزي الأقوى في العالم سينتهي إلى خفض أسعار الفائدة في يوليو، وهو احتمال ضعيف للغاية، وفقا لما تراهن عليه الأسواق.
عملية الانتقال الأولى أمام الاحتياطي الفيدرالي تتمثل في ابتعاده عن الإفراط في سياسة رد الفعل، التي ترتكز على الاعتماد الزائد على البيانات التاريخية الواردة، واستبدالها بنهج استراتيجي يتوقع أيضا التطورات المستقبلية المحتملة.
ويشمل ذلك التأثيرات المتأخرة لدورة رفع أسعار الفائدة الضخمة والآثار الناجمة عن سيناريو “الذيل الأيسر السمين” معدلة بالمخاطر. وكلما زاد التأخير في إجراء هذا الانتقال، زاد احتمال استمرار السياسة النقدية شديدة التقشف لفترة أطول مما ينبغي.
وأعرب بنك “الاحتياطي الفيدرالي” فعلا في مناسبات عديدة عن رغبته في صدور بيانات من التي يعدها مطمئنة على مدى أشهر “عديدة”.
أما عملية الانتقال الثانية فهي أشد صعوبة بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي، وهي كذلك أيضا من منظور العلوم السلوكية. وهي تنطوي على الاعتراف بأن مستوى التضخم الصحيح الذي يجب استهدافه على مدى السنوات القليلة المقبلة الذي يتسق مع مهمته الأخرى بتحقيق الحد الأقصى من التوظيف، هو أقرب إلى 3 % من 2 % الحالية.
خطر تأخر عملية الانتقال
هناك عدة طرق لتنفيذ هذا التحول بطريقة تتسق مع التوقعات التضخمية الراسخة على المدى الطويل. والأهم من ذلك أنه يتطلب من صناع السياسة النقدية استيعاب آثار التغيرات الهيكلية الجارية في كل من الاقتصادات الوطنية ونمط التشابكات الاقتصادية والمالية العالمية.
إذا تأخر الاحتياطي الفيدرالي في تنفيذ العمليتين، فمن المرجح أن يجد “بنك كندا” و”البنك المركزي الأوروبي” وكذلك “بنك إنجلترا” في الوقت المناسب، أن المخاوف التي تتعلق باضطراب أسواق العملات تحد قدرتها على إقرار عدد التخفيضات الضرورية في أسعار الفائدة استنادا إلى ظروفها الاقتصادية المحلية فقط.
يعد ذلك أمرا مؤسفا للغاية بالنسبة لاقتصاد عالمي يعاني بالفعل هشاشة ديناميات النمو وفرط انعدام المساواة، وحيث إن الحكومات لديها قائمة طويلة من المهام التي يتعين عليها القيام بها لتحقيق ازدهار دائم وشامل يتسق مع الحقائق المناخية على كوكبنا.
محمد العريان