التحوّلات الكبرى في الدين العام اللبناني

في شهر آذار الماضي، مرّت الذكرى السنويّة الرابعة لاتخاذ الحكومة اللبنانيّة قرار التخلّف عن سداد سندات اليوروبوند، أي سندات الدين بالدولار الأميركي. منذ ذلك الوقت، كان من المفترض أن تجري الدولة محادثات مع الدائنين، لإعادة جدولة السندات وفق آجال وقِيَم ونِسَب فوائد جديدة، كما يجري في العادة عند التخلّف عن سداد الديون السياديّة. لم تبدأ الدولة بهذه المحادثات بعد، وبطبيعة الحال، لم تقم بإعادة هيكلة ديونها السياديّة. بهذا المعنى، و”على الورق”، ما زالت استحقاقات سندات الدين السيادي، بالليرة والدولار الأميركي، على حالها منذ العام 2019، أي منذ حصول الانهيار.

غير أن التغاضي عن إعادة هيكلة الدين، وبقاء استحقاقات الديون على حالها من حيث القيمة الإسميّة، لم يعنِ عدم حصول تحوّلات كبرى في الدين العام وطبيعته. بل على العكس تمامًا، خلال السنوات الأربع الماضية، طرأت تغيّرات ضخمة في قيمة الديون والجهات التي تملكها، بفعل تغيّر سعر صرف الليرة اللبنانيّة، وسداد جزء من الديون المقوّمة بالليرة للمصارف، وتراكم فوائد الديون بالعملات الأجنبيّة (اليوروبوند). وهذه التحوّلات، بات بالإمكان رصدها اليوم بسهولة، بمجرّد مراجعة المعطيات التي تنشرها وزارة الماليّة بخصوص استحقاق الدين العام.

سندات الدين بالليرة اللبنانيّة
وفقًا لأرقام كانون الثاني 2023، أي آخر المعطيات المتوفّرة حسب وزارة الماليّة، بلغت قيمة سندات الدين العام المقوّمة بالليرة نحو 91.54 ألف مليار ليرة لبنانيّة. هذه القيمة، كانت توازي أكثر من 61 مليار دولار أميركي قبل العام 2019، أي وفقًا لسعر الصرف القديم، 1,507.5 ليرة للدولار. غير أنّ تدهور سعر صرف الليرة اللبنانيّة طوال السنوات الماضية، خفّض قيمة هذه السندات اليوم إلى ما يقارب المليار دولار أميركي، فقط لا غير. بهذا المعنى، يمكن القول أن الدولة تخلّصت من 60 مليار دولار أميركي من ديونها، بفضل انخفاض سعر صرف الليرة.

التحوّلات المهمّة في هيكليّة الدين العام بالليرة طالت كذلك طبيعة مالكي السندات. فعلى سبيل المثال، في اواخر العام 2021، كانت المصارف التجاريّة ما زالت تملك 22.5% من قيمة سندات الدين العام بالليرة. إلا أنّ هذه النسبة انخفضت تدريجيًا، لتوازي حدود 16.7% في أواخر العام 2023. في المقابل، وخلال الفترة نفسها، ارتفعت استحواذات المؤسسات العامّة من هذه السندات من 14% إلى 20%.

بهذا الشكل، وخلال تلك السنوات، كانت المؤسسات العامّة تلجأ خلال هذا السنوات إلى تمويل إصدارات الدين الجديدة، بينما كانت المصارف تمتنع عن شراء هذه السندات، وتكتفي بتحصيل قيمة السندات المستحقة. مع الإشارة إلى أنّ حصّة مصرف لبنان من سندات الدين العام بالليرة لم تتغيّر بين الفترتين، بل ظلّت مستقرّة عند حدود 62%، وهو ما يعني أن التغيّرات اقتصرت على حصّة المصارف التجاريّة والمؤسّسات العامّة.

فوائد اليوروبوند تتراكم
تمثّل سندات اليوروبوند، المتداولة في الأسواق الدوليّة، الكتلة الأساسيّة التي تمثّل 95% من الدين المقوّم بالعملات الأجنبيّة. أمّا الـ5% المتبقية، فتتوزّع على المؤسسات الدوليّة والحكومات الأجنبيّة والديون المتعدّدة الأطراف. الملفت للنظر، هو أن قيمة السندات مع فوائدها تراكمت لتتجاوز 39.51 مليار دولار، في بداية العام 2023، مقارنة بنحو 36.55 مليار دولار في أواخر العام 2021. وكما هو معلوم، تمثّل الفوائد المتأخّرة والآخذة بالتراكم السبب الأساسي لارتفاع قيمة هذا الدين.

من أصل هذا المبلغ الضخم، لم تعد محفظة سندات اليوروبوند التي تملكها المصارف تتجاوز حدود 2.22 مليار دولار أميركي، كما في نهاية شهر أيّار الماضي. وهذا ما يمثّل انخفاضًا كبيرًا مقارنة بحجم هذه المحفظة في شهر تشرين الأوّل 2019، والذي بلغ يومها أكثر من 14.76 مليار دولار أميركي. بهذا المعنى، يمكن القول أنّ المصارف تخلّصت من نحو 85% من سندات اليوروبوند التي تملكها، خلال سنوات الأزمة، عبر بيع هذه السندات في الأسواق الدوليّة.

في جميع الحالات، وبعد انخفاض قيمة سندات الدين المقوّمة بالليرة كما أشرنا سابقًا، باتت سندات اليوروبوند –سندات الدين بالعملات الأجنبيّة- تمثّل اليوم 97.5% من إجمالي الدين العام اللبناني. وباتت قيمة هذا الدين الإجماليّة –السندات بالليرة والدولار معًا- تقارب 40.5 مليار دولار أميركي، بعد الأخذ بالاعتبار قيمة الفوائد المتراكمة بالدولار، وأثر تدهور سعر صرف العملة المحليّة على الدين بالعملة المحليّة.

أخيرًا، من المهم الإشارة هنا إلى أنّ قيمة سندات اليوروبوند –مع فوائدها- ليست قيمة نهائيّة بأي حالٍ من الأحوال. بمعنى آخر، من المرتقب أن تخضع هذه القيمة إلى اقتصاص كبير من قيمتها، وفقًا لتفاهم بين الدولة والدائنين، بعد التفاوض على شروط إعادة هيكلة الدين. ونسبة الاقتصاص، قد تتراوح بين 85% أو 65%، حسب الأوراق القانونيّة التي يمكن أن يستخدمها كل طرف، وحسب الظروف الماليّة السائدة خلال فترة التفاوض.

أثر ديون مصرف لبنان
قيمة الدين العام الحاليّة التي أشرنا إليها، بعد انخفاض قيمة الليرة وتراكم فوائد اليوروبوند، باتت توازي ضعفي الناتج المحلّي الإجمالي اللبناني. وبذلك، سيكون على الدولة اللبنانيّة تخفيض هذا الدين بنحو الثلثين، لإعادته إلى مستويات مستدامة، مقارنة بحجم الاقتصاد اللبناني وناتجه المحلّي.

غير أنّ الإشكاليّة الراهنة تكمن في نحو 16.5 مليار دولار من الديون العامّة التي أضافها مصرف لبنان في ميزانيّته، في شهر شباط 2023، والتي تستحق لمصلحة المصرف المركزي نفسه. هذا الدين المطعون بمشروعيّته، يوازي وحده قرابة 82.5% من إجمالي الناتج المحلّي اللبناني. وإذا ما أضفنا هذا الدين إلى قيمة سندات الدين العام بالليرة والدولار، ستصبح قيمة الدين العام الإجماليّة 57 مليار دولار أميركي، أي نحو 2.85 أضعاف الناتج المحلّي. بهذا الشكل، ستكون الدولة أمام مهمّة مستحيلة، إذا ما أرادت إعادة الدين العام إلى مستويات مستدامة.

في النتيجة، ستبقى مسألة هذه الديون، ومعها ملف إعادة هيكلة الدين العام بشكل عام، معلّقة، بانتظار البدء بالتفاوض مع الدائنين في المستقبل. والأكيد حتّى اللحظة، هو أن الدولة ستحتاج إلى الإمساك بورقة التفاهم مع صندوق النقد الدولي، كي تتمكّن من إقناع هؤلاء الدائنين بإعادة جدولة سنداتهم، في ضوء خطّة تعافٍ ذات مصداقيّة. وحتّى هذه اللحظة، ما زال مسار التفاهم مع الصندوق معلّقًا، تمامًا كحال خطّة التعافي الحكوميّة، ومسار التفاوض مع حملة السندات.