بحلول يوم غدٍ الأربعاء، يكون قد مضى سنة بالتمام والكمال على انتهاء ولاية الحاكم السابق لمصرف لبنان، رياض سلامة. قبل سنة بالضبط من هذا التاريخ، كانت حلقة من موظفي المصرف المركزي تحتفي بالحاكم السابق المُغادر، وكان كثيرٌ من اللبنانيين يستبشرون خيرًا بمرحلة جديدة تُحرّر المصرف من قبضة سلامة وأدواته الملتبسة في إدارة الشأنين المصرفي والنقدي. في تلك المرحلة بالذات، كان نوّاب الحاكم -وعلى رأسهم الحاكم بالإنابة الحالي وسيم منصوري- يسوّقون أنفسهم كقيادة جديدة ونهجٍ مختلف، قياسًا بسياسات سلامة التي لا يذكرها معظم اللبنانيين بالخير. هؤلاء، القيادة الجديدة، كانوا جزءًا مجلس المصرف المركزي تحت قيادة سلامة، لكن رحيل الحاكم السابق حرّرهم من قبضته الممسكة بتفاصيل أمور المصرف.
الآن، بعد مضي عام كامل على تجربة القيادة الجديدة، بات بالإمكان الحُكم -بالأرقام- على نتائج هذه الحقبة. من الإجحاف والظلم البالغين القول بأنّ شيئًا ما لم يتغيّر. ها هي الاحتياطات ارتفعت، وسعر الصرف استقرّ، وحجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة انضبط وانكمش. الأرقام، تقول بأن أشياءً كثيرة -على مستوى النقد- اختلفت، وعلينا الإقرار بذلك. لكنّ التحليل الواقعي يجب أن يسأل عن كلفة هذا الاستقرار وطبيعته، طالما أن اللبنانيين يعرفون أن دولتهم لا تطبع الدولار ولا تخلق “قيمة” من عدم. وهذا ما يحيلنا إلى سؤالٍ أهم: هل نحن أمام حلول مستدامة أم مجرّد معالجات تنقل كلفة الأزمة من مكانٍ إلى آخر؟
جردة حساب “القيادة الجديدة”
تقييم السياسة النقديّة، يمكن أن يستند إلى أربع مؤشّرات موضوعيّة أساسيّة، يمكن أن تعطينا فكرة عن وجهة الأمور في مصرف لبنان: حجم السيولة المتداولة في السوق بالليرة، وحجم الاحتياطات التي يملكها مصرف لبنان بالدولار، وطبيعة الالتزامات المترتبة على المركزي في المقابل، وأخيرًا سعر صرف الليرة اللبنانيّة. بطبيعة الحال، من البديهي القول بأنّ تغيّر كل من المؤشّرات الأربعة يؤثّر تلقائيًا في المؤشرات الأخرى، وتحقيق نتيجة إيجابيّة في بند ما يمكن أن يفرض تحميل الكلفة إلى بند آخر. وهذا ما يحيلنا إلى سؤالنا الأساسي أعلاه، عن الكلفة التي ترتّبها السياسة الراهنة.
في جردة حساب بسيطة، تشير أرقام المصرف المركزي حاليًا إلى أنّ حجم الكتلة النقديّة المتداولة في السوق بالليرة بلغت 62.48 ألف مليار ليرة لبنانيّة، وهو ما يمثّل انخفاضًا كبيرًا قياسيًا بحجم هذه الكتلة البالغ 79.31 ألف مليار ليرة، قبل سنة بالضبط. بهذا المعنى، يمكن أن نسجّل للقيادة الجديدة تمكّنها من امتصاص 21% من قيمة النقد المتداول بالليرة، خلال سنة كاملة. هنا، تسجّل السياسة النقديّة إنجازًا نسبيًا، طالما أن قيمة النقد المتداول تؤثّر تلقائيًا -وبشكل سلبي- على قيمة الليرة.
على المقلب الآخر، تُسجّل السياسة النقديّة إنجازها الآخر عند الحديث عن حجم الاحتياطات التي يملكها مصرف لبنان. قيمة الاحتياطات ارتفعت اليوم إلى حدود 10.28 مليار دولار أميركي، مقارنة بـ8.57 مليار دولار أميركي قبل سنة بالضبط. على هذا النحو، رفعت السياسة المُعتمدة حاليًا قيمة هذه الاحتياطات بحدود 1.71 مليار دولار، أو بنسبة 20%، خلال فترة سنة. وفي الإعلام، غالبًا ما يتم التركيز على هذا المؤشّر -من دون الاهتمام بالمؤشّرات الأخرى- كدلالة على نتائج الحقبة الجديدة في مصرف لبنان.
الإنجاز الثالث، والذي يترتّب تلقائيًا كنتيجة لإنجازين الأوّلين، هو الاستقرار الذي شهدته السوق في سعر صرف الليرة اللبنانيّة. منذ استلام القيادة الجديدة لمهمامها في مصرف لبنان، قبل سنة، لم يُسجّل سعر صرف الليرة أي تقلّبات ذات شأن، بل ظلّ مستقرًّا عند حدوده المألوفة منذ نيسان 2023. وهذا ما دفع البعض للتساؤل عن مدى دقّة القول بأن مصرف لبنان عاد لسياسة تثبيت سعر الصرف، وللسؤال عن كلفة هذا الثبات (يعيدنا هذا البحث إلى سؤالنا المحوري حول كلفة السياسة النقديّة الراهنة).
هنا يُطرح السؤال الطبيعي، كيف جمع مصرف لبنان 1.71 مليار دولار من السوق، من دون زيادة حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة؟ فشراء هذه القيمة الضخمة من الدولارات، مقابل ليرات نقديّة، كان يفترض أن يؤدّي طبعًا إلى ضخ كميّة موازية من النقد بالعملة المحليّة في السوق، وهو ما لم يحصل. وهنا نُذكر مجددًا بحقيقة بديهيّة: مصرف لبنان لا يطبع الدولار، ولا يخلق “القيمة” من عدم.
هذا السؤال، يحيلنا للبحث في المؤشّر الرابع الذي تحدّثنا عنه، أي طبيعة الالتزامات المترتّبة على مصرف لبنان مقابل الزيادة في الاحتياطات والتناقص في حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة.
هيكليّة المطلوبات والالتزامات
عند البحث في طبيعة المطلوبات والالتزامات التي ترتّبت على مصرف لبنان، مقابل زيادة الاحتياطات وتقلّص الكتلة النقديّة بالليرة، تنتهي حدود الشفافيّة في المصرف المركزي.
هناك، يصعب العثور على أرقام تبيّن التزامات المركزي بالدولار الطازج أو الليرة أو “اللولار” لمصلحة القطاع العام، أو تغيّرات هذه البنود، أو مثيل هذه الالتزامات لمصلحة القطاع المصرفي. ما يمكن العثور عليه فقط، هو الالتزامات الإجماليّة للمصارف والقطاع العام، من دون أي تفصيل أو تمييز. وهذا ما لا يفيدنا كثيرًا عند دراسة تغيّر الأرقام منذ سنة، خصوصًا أن المركزي غيّر خلال هذه المدّة سعر الصرف المعتمد لإعداد الميزانيّة، وهو ما يجعل دراسة التغيّرات غير ذي فائدة. والغموض هنا متعمّد، خصوصًا أن المصرف كان ينشر هذه التفاصيل سابقًا خلال العام الماضي، قبل أن يتوقّف عن ذلك بسحر ساحر.
ومع ذلك، يمكن أن نلاحظ بعض المسائل التي تفيدنا في دراسة التغيرات التي حصلت بعد اعتماد سعر الصرف الواقعي لإعداد الميزانيّة، في منتصف شباط الماضي. ومنها على سبيل المثال، ارتفاع حجم ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان بأكثر من 840 مليون دولار، خلال الأشهر الخمسة الماضية، وبلوغ حجم هذه الودائع أكثر من 5.16 مليار دولار في منتصف الشهر الحالي. بهذا الشكل، كان ارتفاع حجم التزامات المصرف للدولة موازيًا، وبشكل كبير، لارتفاع حجم احتياطاته.
هذا الاستنتاج، يعيدنا إلى الإشكاليّة التي تكرّر طرحها وبإلحاح شديد خلال الأشهر الماضية: سياسة حجز الإيرادات العامّة التي يعتمدها مصرف لبنان بالتنسيق وزارة الماليّة. وهذه السياسة، التي تسمح بامتصاص الليرات النقديّة من السوق، هي ما سمح فعليًا بشراء الدولارات من السوق، مقابل ليرات نقديّة، ومن دون زيادة حجم السيولة المتداولة بالليرة أو الإضرار بسعر الصرف. أو لنوضّح المسألة بصورة أبسط، يقوم مصرف لبنان بضخ ليرات لشراء الدولار، مقابل الليرات التي يمتصّها باحتجاز الإيرادات العامّة، وهو ما يخلق المعادلة القائمة حاليًا.
عند هذا الحد من المراجعة لأرقام السنة المنصرمة، يمكن القول أن هناك استقراراً نقدياً ملحوظاً، وهو ما يعاكس تجربة اللبنانيين مع رياض سلامة خلال سنوات الانهيار. وهذا ما يعني طبعًا أنّ القيادة الجديدة في مصرف لبنان حقّقت أولويّاتها على مستوى السياسة النقديّة، لكنّها حمّلت الكلفة –في المقابل- لدافعي الضرائب والدولة اللبنانيّة. فاحتجاز 840 مليون دولار خلال خمسة أشهر، ليس كلفة بسيطة أو هامشيّة يمكن التغاضي عنها. وتقييم السياسة النقديّة الراهنة، لا يمكن أن يتجاوز الحديث عن هذه المسألة.
علي نور الدين