الذّهب ومجموعة BRICS يعيدان تشكيل الاقتصاد العالميّ

تأثير الاستثمار في الذهب على السيولة والنموّ الاقتصادي معقّد ويعتمد على عوامل متعدّدة بما في ذلك السياسات الاقتصادية، الاستقرار السياسي، وثقة المستهلك.

من الضروري للحكومات والمؤسّسات الماليّة فهم هذه الديناميكيات لتشجيع الاستثمارات الأكثر إنتاجية التي تسهم في الاستقرار والنموّ الاقتصادي. هناك عدّة دوافع وراء التوجّه المتزايد للاستثمار في الذهب، سواء على صعيد المصارف المركزية العالمية أو الأفراد.

المصارف المركزية:

تحوّلت العديد من المصارف المركزية عالمياً من الاعتماد على الدولار الأميركي كخيار أوّل للاحتفاظ بالاحتياطات الأجنبية إلى الاستثمار في المعادن الثمينة، خاصة الذهب. الدافع وراء هذا التحوّل يرجع إلى زيادة وتيرة العقوبات التي تفرضها الخزانة الأميركية على أفراد وكيانات، بما في ذلك مصارف مركزية لدول كبرى مثل روسيا وإيران، والتهديد بعقوبات على دول أخرى مثل الصين. هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل تأسيس مجموعة BRICS، وعدم الاستقرار السياسي في أوروبا بسبب الحرب على أوكرانيا ونموّ اليمين المتطرّف، وهو ما يجعل الدولار الأميركي، على الرغم من استقراره، عملة غير مرغوب بها بسبب مخاطر العقوبات.

تعتبر الولايات المتحدة الأميركية لاعباً رئيسياً في النظام الماليّ العالمي، ويعدّ الدولار الأميركي العملة الرئيسية للاحتياطات العالمية والمعاملات الدولية. ومع ذلك، فإنّ السياسة الأميركية المتمثّلة في فرض عقوبات على الدول الأخرى قد أثارت قلقاً متزايداً بين المصارف المركزية العالمية، لا سيما في ما يتعلّق بتأثير هذه السياسات على استقلاليّتها وسيادتها الماليّة:

– تأثير العقوبات على السيادة المالية: تسبّب فرض العقوبات الأميركية على دول مثل روسيا وإيران، والتهديدات الموجّهة نحو دول مثل الصين، في اعتبار الدولار الأميركي عملة محفوفة بالمخاطر. تعتبر هذه الدول أنّ العقوبات تجاوزت كونها إجراءات تنظيمية لتصبح تدخّلات في الشؤون الداخلية، وهو ما يهدّد سيادتها الوطنية ويقوّض استقلالية قراراتها الاقتصادية. قد تلقي سياسة العقوبات الأميركية بظلالها على العلاقات الدبلوماسية مع الدول المتأثّرة، حيث تُظهر الأخيرة مقاومة متزايدة للهيمنة الأميركية في الشؤون الماليّة العالمية. يعزّز هذا الوضع التحالفات بين الدول الباحثة عن حلول بديلة ويشجّع على إنشاء كتل اقتصادية وسياسية قد تعمل بشكل مستقلّ عن النظام الماليّ الذي تقوده الولايات المتحدة.

– البحث عن بدائل من أجل الاستقرار: ردّاً على العقوبات والمخاوف المتعلّقة بالتدخّل في الشؤون المالية، بدأت المصارف المركزية تنويع احتياطاتها من العملات الأجنبية بالاستثمار أكثر في المعادن الثمينة مثل الذهب، التي تعتبر أصولاً ذات قيمة مستقرّة ولا تخضع لسيطرة دولة واحدة. كما أنّها تسعى إلى استخدام عملات بديلة في المعاملات الدولية لتقليل الاعتماد على الدولار. الدول التي تتأثّر بالعقوبات تسعى إلى استقرار اقتصادي أكبر من خلال تقليل التقلّبات التي قد تسبّبها السياسات الأميركية. الذهب يوفّر هذه الاستقرارية كأصل لا يمكن تجميده أو الحجز عليه بسهولة من قبل القوى الأجنبية، وهو ما يجعله خياراً مثاليّاً للاحتفاظ بالقيمة في أوقات الأزمات السياسية والاقتصادية.

الأفراد:

ارتفع الطلب على سبائك الذهب، لا سيما في ظلّ الضغوط التضخّمية التي صاحبت جائحة كورونا والحرب على أوكرانيا وما ترتّب عليها من تداعيات سلبية على أسعار الطاقة والغذاء، وأخيراً الحرب على غزة. الفشل المستمرّ للدول الكبرى مثل أميركا وروسيا وأوروبا وبريطانيا في حلّ هذه الأزمات المتفاقمة ومشاكل التضخّم والسياسة والأمن، ساهم في فقدان الثقة بالعملة التقليدية (مثل الدولار أو اليورو)، وهو ما دفع الأفراد إلى اختيار الذهب والفضّة كبدائل آمنة للادّخار. في لبنان، حيث تُعتبر الأزمة الماليّة والمصرفية متفاقمة، أصبحت سبائك الذهب الخيار الأفضل للادّخار بالنسبة للأفراد، وهو ما يمثّل تحدّياً اقتصادياً نظراً للسيولة التي تُستثمر في شراء الذهب بدلاً من توجيهها نحو مشاريع منتجة تسهم في تنشيط الاقتصاد وخلق فرص عمل.

في ظلّ الاضطرابات الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي، أصبح الأفراد يفضّلون الاستثمار في سبائك الذهب كوسيلة للمحافظة على قرشهم الأبيض ليوم أسود قد يأتي. هذا الاتجاه له تداعيات اقتصادية مهمّة قد تؤثّر على النموّ الاقتصادي العامّ وخلق فرص العمل:

– الذهب كملاذ آمن: الذهب يُعتبر تقليدياً ملاذاً آمناً في أوقات الأزمات الماليّة والاقتصادية. في ظلّ التقلّبات الشديدة في الأسواق المالية وعدم اليقين السياسي، يميل الأفراد إلى تحويل مدّخراتهم إلى الذهب الذي يحافظ على قيمته على المدى الطويل، مقابل العملات الورقية التي قد تتأثّر بالتضخّم وفقدان القيمة. الاستثمار في الذهب قد يكون أيضاً نتيجة عدم الثقة بالنظام الاقتصادي والماليّ كما هو الحال في لبنان. عندما يفقد الأفراد الثقة بالعملات الورقية أو المصارف أو حتى الحكومات، يميلون إلى اللجوء إلى الذهب كوسيلة للحفاظ على قيمة مدّخراتهم، وهو ما يعكس حالة من القلق الاقتصادي قد تؤثّر سلباً على الاستهلاك والاستثمارات الأخرى.

– التأثير على السيولة الاقتصادية: عندما يستثمر الأفراد في الذهب، فإنّ الأموال التي يمكن أن تُستخدم في الاستهلاك أو الاستثمار في مشاريع منتجة تُحوَّل بدلاً من ذلك إلى أصول غير مُنتجة. هذه السيولة المُستثمرة في الذهب لا تسهم في الناتج المحلّي الإجمالي مباشرة، وهو ما يؤدّي إلى تقليص الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري الذي يمكن أن يعزّز النموّ الاقتصادي الذي لبنان بأمسّ الحاجة إليه. بدلاً من توجيه الأموال نحو مشاريع تجارية أو صناعية قد تخلق فرص عمل وتسهم في النموّ الاقتصادي، يؤدّي الاستثمار في الذهب إلى “تجميد” جزء من السيولة في أصول غير متداولة بسهولة.

محمد فحيلي