يبيع وارن بافيت أسهماً بكميات كبيرة، وهي حقيقة ظهرت فجأة ودفعت كثيراً من المعجبين به إلى أن يتبعوه. وأعلنت مجموعته “بيركشاير هاثاواي”، ومقرها في أوماها بولاية نبراسكا، يوم السبت الماضي أنها قلصت كثيراً من مراكزها الاستثمارية، وخفضت حصتها في شركة “أبل”، وهي أكبر حيازة في محفظتها، في إشارة بالنسبة لبعض المتعاملين في السوق إلى أن الملياردير الملقب بـ”أوراكل أوماها” يعتقد أن سوق الأسهم ستشهد تدهوراً عميقاً.
لم تكن الرسالة المقصودة واضحة وقاطعة كما يظهر للعيان من الوهلة الأولى، إلا أن تلك التفصيلة الدقيقة ليست مهمة على الإطلاق بالنظر إلى سرعة تدهور المعنويات وانهيارها في الأسواق.
في وقت كتابة هذه السطور، فقد مؤشر “إس آند بي 500” نحو 3% من قيمته. ليس لدي فكرة عن حجم تأثير بافيت في هذا الانهيار، غير أننا نستطيع القول إن إفصاحه الذي خرج في توقيت سيئ، لعب دوراً في تدهور المعنويات.
بلغت قيمة النقود وما يعادلها كنسبة من إجمالي الأصول في شركة “بيركشاير هاثاواي” مستوى قياسياً عند 276.9 مليار دولار، لتعود الآن رسمياً إلى نفس المستويات المرتفعة التي شهدتها في العشرية الأولى من القرن الحالي قبل اندلاع الأزمة المالية، عندما ذاع أن بافيت، الذي يمتلك سيولة نقدية كبيرة، يقتنص استثمارات قيّمة بأبخس الأسعار.
من حيث قيمتها المطلقة، ارتفعت كمية النقود السائلة لدى بافيت إلى مستويات قياسية لفترات عديدة، ولكنني تجاهلت ذلك حتى الآن لأن مستوى النقدية لم يكن على هذا القدر من الارتفاع مقارنة مع مؤشرات أخرى لقياس حجم شركته. غير أن هذا السبب لم يعد صالحاً في الوقت الحالي.
لحظة ضعف في الاقتصاد والأسواق
تأتي أخبار “بيركشاير هاثاواي” في لحظة ضعف خاصة في الأسواق والاقتصاد.
كان ارتفاع أسعار الأصول، مع فائض المدخرات وانخفاض معدل البطالة في الولايات المتحدة، واحداً من ثلاثة أعمدة قام عليها الاستهلاك في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، وقد حافظت التقييمات المرتفعة لأسهم الشركات الأميركية الكبرى جزئياً على ذلك الارتفاع في أسعار الأصول.
أما عن فائض المدخرات فيشهد تراجعاً منذ فترة، لكن يبدو أن الثروة الشخصية وسوق العمل كانتا صامدتين صموداً جيداً حتى الأسبوع الماضي. والآن يبدو أن الاستهلاك أصبح غير مستقر فجأة.
بعد يومين من تفويت الاحتياطي الفيدرالي الأميركي فرصة لخفض أسعار الفائدة الأساسية، أظهر تقرير لمكتب إحصاءات العمل يوم الجمعة ارتفاع معدل البطالة إلى أعلى مستوى تقريباً في ثلاثة أعوام، مما أطلق موجة البيع التي ساهم بافيت في استمرارها.
حتى إذا افترضنا أن لاتجاهات حركة الثروة تأثيراً نسبياً ضئيلاً على مستوى الاستهلاك، فإن الزيادة في محافظ الأسهم وحقوق ملكية المنازل هي زيادة استثنائية حتى الآن إلى الدرجة التي تجعل تأثيرها مؤكداً.
ارتفع صافي ثروة الأسر بنحو 41.5 تريليون دولار خلال الفترة من نهاية عام 2019 حتى أوائل 2024.
يأتي الانقلاب المفاجئ في أسعار الأسهم أيضاً في وقت تعاني فيه سوق العقارات السكنية في ما يبدو، مع نضوب المدخرات الكبيرة التي بقيت بعد انتهاء الجائحة.
ما الذي يفكر فيه بافيت على أي حال؟
أولاً، أخبرنا بافيت بالفعل أن نتوقع بيع بعض الأسهم، على الأقل جزئياً لأسباب تتعلق بالضرائب. ففي الجمعية العمومية السنوية لشركة “بيركشاير هاثاواي” في شهر مايو، أعرب بافيت عن قلقه، المفهوم للغاية، من أن عجز الميزانية الفيدرالية المتزايد قد يؤدي إلى رفع ضرائب أرباح رأس المال في المستقبل.
قال بافيت في ذلك الوقت: “أنا لا أمانع على الإطلاق، في ظل الظروف الحالية، في بناء مركز استثماري في النقود السائلة، حيث نجد أنها جذابة للغاية عندما ننظر إلى بدائل ما هو متاح في أسواق الأسهم، وإلى تركيبة ما يحدث في العالم”.
على الرغم من كل الآفاق المستقبلية لحركة سهم “أبل” على المدى المتوسط، يبدو أن بيعه قد عزز وجهة النظر القائلة بأن أسهم التكنولوجيا والاتصالات قد أصبحت مرتفعة للغاية. كذلك خفضت “بيركشاير هاثاواي” حيازتها في “بنك أوف أميركا”، ويبدو أنها تفضل الأوراق المالية الحكومية التي تدر عائداً يزيد عن 5%.
ثانياً، استاء بافيت دائماً من فكرة أنه يستطيع بطريقة ما أن يتنبأ بالمستقبل أو وقت ارتفاع وهبوط الأسواق. فقد صنع اسمه كمستثمر طويل الأجل يجد شركات جيدة بأسعار معقولة ويشتريها ويستمر فيها لسنوات أو عقود.
إذا كانت تحركاته في فترة الأزمة المالية تُعتبر نوعاً من استراتيجية توقيت السوق، فمن الجدير بالذكر أنها لم تبلغ من الدقة ما قد توحي به الأسطورة.
كونت “بيركشاير” محفظتها من السيولة النقدية بشكل كبير في الفترة من 2002 إلى 2005، ثم حافظت عليها عند مستويات قياسية حتى نهاية عام 2007.
ما نتذكره الآن هو كيف بدا بافيت وصديقه الراحل تشارلي مونغر ذكيين خلال الأزمة، عندما استخدما فائض السيولة النقدية في شراء استثمارات تشمل مجموعة “غولدمان ساكس” و”جنرال إليكتريك” و”داو كيميكال”.
غير أننا ننسى غالباً مدى عنادهما الظاهر قبل وقوع الأزمة. فقد كان أداء “بيركشاير” أضعف كثيراً من أداء مؤشر “إس آند بي 500” منذ نهاية عام 2002 وحتى منتصف عام 2007.
ربما كان ذلك مقايضة معقولة بين المخاطرة والعائد، لكن التاريخ يُظهر أن الاقتصاد لا ينهار على الفور لمجرد أن بافيت قد حول استثماراته إلى نقود سائلة.
أخيراً، لا يزال بافيت يمتلك الكثير من الأسهم، وفي شركة “أبل” على وجه الخصوص، حيث تبلغ قيمة أسهمه فيها نحو 84 مليار دولار.
حقق سهم “أبل” عائداً سنوياً بلغ 30% تقريباً منذ أن كشف بافيت عن مركزه لأول مرة في عام 2016.
أحد التفسيرات يرى أنها في الواقع علامة على الثقة عندما ترى استثماراً يرتفع بهذا القدر ثم لا تسحب إلا نصف أوراقك فقط من على الطاولة.
دوامة من المشاعر السلبية
إجمالاً، عادةً ما أتوخى الحذر في استنتاج الكثير من أخبار بافيت في حد ذاتها، مثلما اعتقدت أن التهويل من نتائج تقرير الوظائف الأخير كان مبالغاً فيه بعض الشيء.
أظهر تقرير “معهد إدارة العرض” الذي نُشر بعد فترة وجيزة من بدء التعاملات أن مؤشره لا يزال في منطقة توسعية، وهو بصيص من الأمل أدى إلى إراحة السوق من حالة الذعر التي أصابتها خلال اليوم.
ربما لا يزال بإمكان المزيد من الأخبار من هذا القبيل –بما في ذلك بعض أرقام طلبات إعانة البطالة الأولية الجيدة– أن تضع حداً للضرر. ولكن في الوقت الحالي، ما زلت أشعر بالقلق من أننا في خضم دوامة من المشاعر السلبية التي قد يكون من الصعب إيقافها.
قد يؤدي انخفاض قيم الأصول إلى جعل سوق العمل المتذبذبة أكثر تذبذباً، وقد يعاني الاستهلاك نتيجة لذلك. ربما لم تكن هذه هي النتيجة التي قصدها “أوراكل أوماها”، ولكن من المستحيل تجاهل دوره في ذلك.