في شهر أيّار الماضي، أي قبل نحو شهرين، كانت أسعار سندات اليوروبوندز اللبنانيّة تسجّل ارتفاعات أسبوعيّة متتالية، بتأثير من الأنباء عن اتجاه الحكومة لتفاوض وإعادة شراء جزء من السندات المتداولة، وهو ما يمكن أن يرفع -بشكل محدود- القيمة التي يمكن استردادها من السندات.
اليوم، باتت وجهة السوق معاكسة تمامًا، مع مواظبة السندات على تسجيل انخفاضات أسبوعيّة متتالية، وصولًا إلى مستويات متدنية جدًا، حتّى بالمقارنة مع سعر هذه السندات عشيّة اندلاع الحرب في قطاع غزّة. شبح الحرب وإمكانيّة اتساعها ترك تأثيره بشكل واضح على سوق هذه السندات، التي تعكس أسعارها اليوم تفاؤل أو تشاؤم المستثمرين بإمكانيّة عودة الدولة للتفاوض على إعادة هيكلة ديونها السياديّة.
تحوّلات الأسابيع الماضية
قبل تفنيد التحوّلات في أسعار السندات وأبعادها، من المهم الإشارة أولًا إلى الفارق بين قيمة السند الإسميّة، وقيمته السوقيّة عند التداول في الأسواق. فقيمة السند الإسميّة، وهي ثابتة في حالتنا هذه، تعبّر عن القيمة التي يفترض سدادها عند الاستحقاق، أو بالأحرى: تلك التي كان من المفترض سدادها، على اعتبار أن الدولة متخلّفة اليوم عن سداد هذه السندات. أمّا القيمة السوقيّة، ويُعبّر عنها كنسبة من القيمة الإسميّة، فهي القيمة التي يعتمدها المستثمرون لبيع وشراء سندات. وفي حالة لبنان، غالبًا ما كانت تتأثّر هذه القيمة بتطوّرات الأزمة وأفقها، وتداعياتها على مستقبل السندات المتداولة.
لغاية آخر الأسبوع الماضي، كانت سندات اليوروبوندز اللبنانيّة قد هبطت إلى مستويات تقارب الـ 6.25 سنت للدولار الواحد، أي أنّ السند كان يُباع في السوق بـ 6.25% من قيمته الإسميّة. وهذا ما مثّل انخفاضًا معتبرًا بنسبة 4%، مقارنة بسعر السند قبل أسبوع واحد فقط، والذي قارب عندها مستوى الـ 6.5 سنت للدولار.
وواقع السوق الحالي، بات يُعتبر اليوم غارقًا في التشاؤم، عند مقارنته بوضع السندات قبل نحو شهرين، عندما ارتفعت أسعارها لتلامس حدود الـ 6.75 سنت للسند، بالتوازي مع الحديث عن إمكانيّة دخول الدولة السوق لشراء جزء من السندات المتداولة. وبطبيعة الحال، ظلّت فكرة إعادة الشراء مقترحًا متداولًا، من دون أن تتم ترجمتها بأي إجراء عملي.
من الناحية العمليّة، استكملت السندات خلال الأسبوعين الماضيين نمط الانخفاضات المتتالية والمتكرّرة، التي شهدتها منذ بدايات الحرب على قطاع غزّة. فعشيّة اندلاع الحرب، كانت أسعار السندات قد قاربت الـ 7.87 سنت للدولار، وهو ما يزيد بنحو 25.92% عن سعر تداول السندات اليوم. وهذا ما يؤشّر بشكل واضح إلى أثر التطوّرات الأمنيّة التي شهدها لبنان على مدى الأشهر العشرة الماضي، على مستوى إقبال المستثمرين على تداول سندات اليوروبوندز.
ببساطة، تلمّست الأسواق، منذ ذلك الوقت، أن الأحداث الجارية ستُبعد لبنان عن مسارات الحل المالي، التي كان من المفترض أن تؤسّس لعمليّة إعادة هيكلة الدين العام، ومنه طبعًا سندات اليوروبوندز التي يجري تداولها. وابتعاد الدولة عن إعادة هيكلة السندات، سيعني إبقاءها -كما هي اليوم- مجرّد أوراق ماليّة تُنتج فوائدًا متراكمة، لا يمكن تحصيلها من المدين، أي الدولة اللبنانيّة، عند الاستحقاق.
مفاعيل التحوّلات في أسعار السندات
كما أشرنا سابقًا، لا يؤثّر سعر التداول السوقي اليوم على وضعيّة المدين مُصدر السندات، أي الدولة اللبنانيّة في هذه الحالة. فالقيمة الإسميّة للسندات، أي قيمة الدين الأساسي، تظل ثابتة بمعزل عن سعر التداول. وفي حالة الدولة المتخلّفة عن السداد، من المنتظر أن يُعاد تحديد القيمة الإسميّة للسندات، بعد إعادة هيكلتها، وفقًا لقيم وفوائد واستحقاق جديدة، بالاتفاق مع حملة السندات أنفسهم. وبهذا المعنى، لا يعكس سعر السند أي تغيّر فعلي في المديونيّة نفسها.
ومع ذلك، من المهم التنويه إلى بعض مفاعيل ما يجري في سوق سندات اليوروبوندز. فانخفاض قيمة هذه السندات، يمكن أن يخفّض السعر الذي ستضطر الدولة إلى عرضه، إذا قرّرت مستقبلًا المضي في أي عمليّة إعادة شراء للسندات من السوق. ومن الطبيعي أن تضطر الدولة في هذه الحالة إلى عرض أسعار تفوق بنسبة محدودة سعر التداول اليوم، إلا أنّ انخفاض سعر التداول سيسمح بالانطلاق من خط أساس منخفض للتفاوض على عمليّة إعادة الشراء. أمّا التفاوض على إعادة هيكلة الدين نفسه في المستقبل، وتحديد القيمة الإسميّة الجديد للسندات، فسيتأثّر أيضًا بالقيمة السوقيّة للسند نفسه، وإن بدرجة أقل من عمليّة إعادة الشراء.
في المقابل، يمكن القول أن الأسعار الرائجة في سوق اليوروبوندز اليوم تُعبّر عن تطلّعات السوق ودرجة تفاؤل المستثمرين بمستقبل الدولة المالي، أو بقدرتها على إنجاز مسار التعافي المالي الموعود في خطّة الحكومة الاقتصاديّة. مع العلم أن الجزء الأكبر من مالكي السندات اليوم هم عمليًا من الصناديق الاستثماريّة التي تملك خبراء متخصّصين في دراسة مخاطر الاستثمار، وهو ما يعطي رأي هؤلاء المستثمرين أهميّة خاصّة. وفي جميع الحالات، من الواضح أن سعر التداول الحالي، الشديد الانخفاض مقارنة بالقيمة الإسميّة للسند، يعكس تشاؤمًا واضحًا بخصوص مآلات الأزمة وتداعياتها على سوق السندات، أو قيمة الاسترداد التي يمكن أن يحصّلها المستثمرون من قيمة سنداتهم.
أخيرًا، يبقى أن نعيد التذكير بالاستحقاق الأهم الذي يغيب عن بال الجميع، في ظل الأحداث الأمنيّة الدائرة. في شهر آذار المقبل، تنتهي المهلة القانونيّة المتاحة للدائنين، للمطالبة القانونيّة بقيمة الفوائد المتراكمة على السندات، وهي مهلة محدّدة بخمس سنوات من لحظة تخلّف الدولة عن سداد ديونها. بحلول هذا الأجل، من المرتقب أن يواجه لبنان -ولأوّل مرة- مطالبات قانونيّة من جانب الدائنين، وهو ما سيمثّل انعطافة مهمّة في تاريخ الأزمة الماليّة اللبنانيّة. ورغم خطورة كل هذه التطوّرات، لم تبادر الدولة بعد إلى إطلاق أي مسار جدّي لتحديد هويّة الدائنين أولًا، تمهيدًا للتفاوض معهم، على أساس خطّة حكوميّة شاملة.
علي نور الدين