لبنان عائد إلى “اللائحة الرّماديّة” لغسل الأموال؟

لبنان، البلد الذي ابتُلي منذ فترة طويلة بتاريخ معقّد وسامّ في كثير من الأحيان من الصراع الداخلي والانقسامات الطائفية والتدخّلات الخارجية، يجد نفسه الآن في منعطف حرج. في حين تستعرض مجموعة العمل المالي (FATF) امتثالها للمعايير الدولية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، يطرح السؤال: هل يمكن للجهات الفاعلة الحكومية والمصرفيين في لبنان حشد الرغبة والقدرة على تلبية هذه المبادئ التوجيهية الصارمة؟

يخضع لبنان حالياً لتدقيق مكثّف من قبل مجموعة العمل المالي (FATF)، وهي منظمة حكومية دولية تأسّست في عام 1989 لتطوير سياسات تهدف إلى مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تضع مجموعة العمل المالي المعايير الدولية وتعزّز تنفيذها على الصعيد العالمي، حيث تعمل الهيئات الإقليمية مثل مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA-FATF) على ضمان الالتزام بها في مناطق محدّدة.

يواجه لبنان، العضو في مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خطر إعادته إلى “القائمة الرمادية” في تشرين الأول 2024 بسبب أوجه القصور الكبيرة في أطر مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. هذا التخفيض المحتمل متجذّر في تقويم عام 2023 الذي سلّط الضوء على فشل البلاد في تلبية المعايير الدولية، على الرغم من التمديد لمدّة عام واحد للتحسين.

قد تكون للإدراج في القائمة الرمادية تداعيات خطيرة على القطاع المالي في لبنان. وهو ما يؤدّي إلى متطلّبات امتثال أكثر صرامة من البنوك المراسلة الأجنبية ويزيد من تفاقم التحدّيات الاقتصادية في البلاد. وقد انخرط البنك المركزي بنشاط مع الهيئات الدولية، بما في ذلك صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأميركية، لتجنّب هذه النتيجة، لكنّ الوضع لا يزال محفوفاً بالمخاطر.

يرتبط مأزق لبنان الحالي ارتباطاً وثيقاً بتاريخه المعقّد والسامّ (Toxic) في كثير من الأحيان، والذي يتميّز بالصراعات المطوّلة، والتدخّلات الأجنبية، والانقسامات الطائفية الراسخة. وقد جعلت هذه العوامل الدولة ذات بنية هشّة ومؤسّساتها ضعيفة، وهو ما يعقّد الجهود الرامية إلى تنفيذ تدابير فعّالة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والحفاظ عليها. كما أنّ المشهد الجيوسياسي يعيق التقدّم، حيث غالباً ما يكون لبنان عالقاً بين القوى الإقليمية والدولية المتنافسة، وهو ما يزيد من التحدّيات في تلبية توقّعات مجموعة العمل الماليّ.

تاريخ من التّعقيد والهشاشة

تشوب السياق التاريخي للبنان سلسلة من الصراعات المدمّرة التي تركت ندوباً لا تمحى على نسيجه الاجتماعي والسياسي. فقد ساهمت الحرب الأهلية اللبنانية، والغزوات الإسرائيلية، وامتداد الصراع السوري إلى نشوء دولة هشّة، حيث غالباً ما تضعف الطائفية والتأثيرات الخارجية الحكم. وقد خلقت هذه الخلفية بيئة تكافح فيها الحكومة المركزية من أجل بسط سيطرتها على البلاد بأكملها، مع امتلاك الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل الحزب سلطة ونفوذاً كبيرين. هذه العوامل التاريخية والجيوسياسية لها تأثير مباشر على قدرة لبنان على تنفيذ وإنفاذ المبادئ التوجيهية لـ FATF بشكل فعّال.

الآثار المترتّبة على إدراج لبنان في القائمة الرمادية شديدة. وقد تواجه المصارف اللبنانية، التي تعاني بالفعل من ضغوط، متطلّبات امتثال أكثر صرامة من نظيراتها الأجنبية، وهو ما يزيد من عزلة النظام الماليّ اللبناني عن السوق العالمية. ومن شأن هذه العزلة أن تؤدّي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية المستمرّة في البلاد، وهو ما يعمّق عدم الاستقرار المالي الذي ابتُلي به لبنان منذ سنوات.

الاستعداد والقدرة: الأسئلة الأساسيّة

يتوقّف استعداد وقدرة الجهات الفاعلة الحكومية والمصرفيين في لبنان على الامتثال لمعايير مجموعة العمل المالي على عدّة عوامل:

1- الإرادة السياسيّة: المشهد السياسي في لبنان منقسم بشدّة، حيث غالباً ما تكون للمصالح الطائفية الأسبقية على الاهتمامات الوطنية. إنّ وجود جهات فاعلة قويّة غير حكومية مثل الحزب يعقّد الجهود الرامية إلى وضع سياسة وطنية موحّدة بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وفي حين نجد بعض الاستعداد على مستوى البنك المركزي وبين بعض الشخصيات السياسية، فإنّ الإرادة السياسية العامة لتنفيذ إصلاحات شاملة لا تزال موضع شكّ لأنّ المصالح الراسخة لمختلف الجماعات الطائفية، ولكلّ منها تحالفاتها الخارجية الخاصة، تخلق عقبات كبيرة أمام التغيير الهادف.

2- القدرة المؤسّسيّة: تكافح مؤسّسات الدولة اللبنانية، التي أضعفتها سنوات من الصراع والفساد، لإنفاذ القوانين بشكل موحّد في جميع أنحاء البلاد. وغالباً ما تُقوَّض السلطة القضائية ووكالات إنفاذ القانون، الضرورية لدعم تدابير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، بسبب التدخّل السياسي ونقص الموارد. إنّ تعزيز هذه المؤسّسات أمر بالغ الأهمية، لكنّه يتطلّب وقتاً والتزاماً بالحدّ من النفوذ الطائفي. وهي مهمّة صعبة في السياق الحالي في لبنان.

3- امتثال القطاع المصرفيّ: بدأت المصارف اللبنانية بالفعل بتشديد إجراءات الامتثال تحسّباً لإدراج محتمل في القائمة الرمادية. ومع ذلك، فإنّ القطاع المصرفي ليس محصّناً ضدّ التحدّيات الاجتماعية والسياسية الأوسع التي ابتُليت بها البلاد. ويتأثّر استعداد المصارف للامتثال للمبادئ التوجيهية لفرقة العمل المعنيّة بالإجراءات المالية بالحاجة إلى الحفاظ على العلاقات مع المصارف المراسلة الأجنبية وتجنّب المزيد من العزلة. ومع ذلك، فإنّ قدرتها على القيام بذلك مقيّدة بنقاط الضعف الشاملة في هياكل الحكم في لبنان.

4- الاعتماد المفرط على أوراق النّقد: هناك قضية أخرى حاسمة تتمثّل في الاعتماد المفرط على النقد في المعاملات المحلّية، وهو ما ينعكس سلباً على قدرة الدولة على مكافحة غسل الأموال. إنّ الاستخدام المكثّف للنقد في الاقتصاد اللبناني يجعل من الصعب تتبّع التدفّقات المالية، وبالتالي تسهيل حركة الأموال غير المشروعة. هذا الاعتماد على النقد يقوّض الجهود المبذولة لفرض تدابير مكافحة غسل الأموال، لأنّه يتجاوز النظام المصرفي الرسمي حيث تتمّ مراقبة المعاملات وتنظيمها بسهولة أكبر. وتتطلّب معالجة هذه القضية بذل جهود متضافرة لتعزيز المدفوعات الرقمية والخدمات المصرفية، إلى جانب رقابة تنظيمية أقوى.

إنّ التحدّيات التي تواجه لبنان في تلبية الامتثال لـ”مجموعة العمل المالي المعنيّة بالإجراءات المالية” متجذّرة بعمق في النسيج السياسي والمؤسّسي والاقتصادي للبلاد. وفي حين أنّ هناك مقدمات ومناصرين من الاستعداد لسنّ الإصلاحات، فإنّ البيئة الأوسع التي تتّسم بالتشرذم السياسي، والضعف المؤسّسي، والاعتماد المفرط على النقد، تشكّل حواجز كبيرة. ولكي يتمكّن لبنان من التغلّب على هذه التحدّيات بنجاح، من الضروري اتّباع نهج شامل يعالج هذه القضايا الأساسية. ولن يتطلّب ذلك التزام الجهات الفاعلة الحكومية والمصرفيين فحسب، بل يتطلّب أيضاً جهداً وطنياً جماعياً للتغلّب على العقبات النظامية التي أعاقت منذ فترة طويلة تقدّم البلاد في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

الطّريق إلى الأمام: نهج متعدّد الأوجه

لتحقيق الامتثال للمبادئ التوجيهية لمجموعة العمل FATF، يجب على لبنان أن يشرع في اتّباع نهج متعدّد الأوجه يعالج نقاط ضعفه الداخلية والضغوط الخارجية التي يواجهها. وهذا يشمل:

– المصالحة الوطنية والحوار: إنّ تعزيز المصالحة الوطنية من خلال الحوار الشامل بين الفصائل الطائفية والسياسية المتنوّعة في لبنان أمر بالغ الأهمّية. وبناء الثقة والتفاهم بين المجتمعات يمكن أن يمهّد الطريق لنهج أكثر توحيداً لتدابير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

– تعزيز مؤسّسات الدولة: من الضروري إجراء إصلاحات في الحوكمة تهدف إلى تحسين الشفافية والمساءلة والحدّ من النفوذ الطائفي. ويشمل ذلك تعزيز قدرة الجيش اللبناني والأجهزة الأمنيّة على الحفاظ على الأمن القومي بنزاهة.

– نزع السلاح وإصلاح قطاع الأمن: إنّ معالجة مسألة الجماعات المسلّحة غير الحكومية، ولا سيما الجناح العسكري للحزب، أمر محوري لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل. يمكن أن يساعد الحوار الوطني الشامل حول نزع السلاح، إلى جانب الجهود الرامية إلى دمج الجماعات المسلّحة في إطار الدفاع الوطني، في تعزيز احتكار الدولة للقوّة المشروعة.

– الاستقرار الاقتصادي والتنمية: التصدّي للتحدّيات الاقتصادية في لبنان أمر بالغ الأهمية للحدّ من المظالم الاجتماعية والاقتصادية التي تغذّي عدم الاستقرار. إنّ الإصلاحات الهيكلية التي تهدف إلى معالجة أزمة الديون، وتعزيز النموّ الاقتصادي، وخلق فرص العمل، هي المفتاح لإنعاش الاقتصاد.

لبنان على مفترق طرق

قدرة لبنان على الامتثال لإرشادات مجموعة العمل المالي متشابكة بعمق مع تاريخه المعقّد وديناميكياته الاجتماعية والسياسية الحالية. وفي حين أنّ هناك جهوداً داخل البلاد لتجنّب القائمة الرمادية، فإنّ التحدّيات هائلة. إنّ استعداد الجهات الفاعلة الحكومية والمصرفيين للضغط من أجل الامتثال موجود، لكن غالباً ما يتمّ تقويضه بسبب السياق الأوسع للتشرذم السياسي، والضعف المؤسّسي، والضغوط الخارجية.

لكي يتمكّن لبنان من تجاوز هذه الأزمة وتجنّب العواقب الوخيمة لوضعه في القائمة الرمادية، يجب عليه إجراء إصلاحات كبيرة تعالج الأسباب الجذرية لمأزقه الحالي. ولا يمكن للبنان أن يأمل تحقيق الاستقرار والامتثال المطلوبين للوفاء بمعايير فرقة العمل المعنيّة بالإجراءات المالية المتعلّقة بغسل الأموال، إلا من خلال بذل جهود متضافرة من جانب جميع أصحاب المصلحة، بدعم من المجتمع الدولي.

الطريق أمامنا محفوف بالتحدّيات، لكنّ البديل المزيد من العزلة والتدهور الاقتصادي، وهو ما لا يترك للبنان خياراً سوى السعي من أجل تغيير ذي مغزى.

 

محمد فحيلي

 باحث في الشؤون الاقتصادية والمصرفية.