توصف “المعجزة الصينية” بأنّها أكبر تحدٍّ استراتيجي خارجي يواجه الولايات المتحدة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. إلا أنّ البيانات الاقتصادية الصينية الأخيرة ترسم صورة مقلقة لعملاق يواجه علامات الشيخوخة. أو ربّما هي آثار الحرب التجارية الباردة التي بدأها دونالد ترامب، واستمرّ فيها جو بايدن على طريقته.
أخطر البيانات الآتية من الصين هي تسجيل خروج صافٍ للاستثمارات الأجنبية المباشرة بوتيرة قياسية بلغت 15 مليار دولار في الربع الثاني من العام الحالي، وبنحو خمسة مليارات دولار في النصف الأوّل من السنة. وتأتي هذه البيانات استمراراً لمسار انحداري مقلق بدأ العام الماضي، حين انخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى 33 مليار دولار، مسجّلة أدنى مستوى لها منذ عام 2004.
يشكّل هذا الانحدار تحوّلاً استراتيجياً. فقبل عامين فقط كانت الصين تستقبل حجماً قياسياً من الاستثمارات الأجنبية المباشرة يقارب 344 مليار دولار في 2021.
ما هي الأسباب؟
لكنّ متغيّرين استراتيجيَّين كبيرين دخلا مسرح الأحداث منذ ذلك الحين:
– الأوّل، تبنّي الولايات المتحدة استراتيجية جديدة لمواجهة الصعود الصيني، تُرجمت بإقرار سلسلة من القوانين لتحفيز الشركات الأميركية والعالمية على فكّ ارتباطها بالصين. وأهمّ تلك التشريعات “قانون خفض التضخّم” (IRA)، و”قانون الرقائق والعلوم”. وكلاهما نجح بالفعل في اجتذاب استثمارات بمئات مليارات الدولارات لإنشاء مصانع للسيّارات الكهربائية والبطّاريات والرقائق الإلكترونية والطاقات المتجدّدة في الولايات المتحدة. وترافق ذلك مع ارتباط أميركي أوثق بالهند، كنوعٍ من الرهان على إيجاد محطّة بديلة لسلاسل الإمداد الأميركية.
– والثاني، تغيّر استراتيجي طرأ في الفكر الاقتصادي الصيني. إذ تعمد القيادة الشيوعية إلى سياسة تصدير الاستثمارات بوتيرة مكثّفة، علاوة على استيرادها، بهدف وضع أكبر عدد من الدول في دائرة نفوذها الاقتصادي – السياسي.
بدأت هذه الاستراتيجية بما سمّي “مبادرة الحزام والطريق”. لكنّها اتّخذت أخيراً أشكالاً مختلفة من الاستثمار المباشر في إنشاء مصانع للسيارات الكهربائية والطاقات النظيفة والمعادن النادرة خارج حدودها. من أهمّ أهداف هذه الاستراتيجية الالتفاف على السياسات الحمائية الأميركية والأوروبية. إذ تعمد الصين إلى إنشاء مصانعها في دول ترتبط باتفاقيات تجارة حرّة أو مجرّد علاقات تجارية جيّدة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مثل المكسيك والمغرب وماليزيا، أو تستثمر في الدول ذات الموارد التعدينية الاستراتيجية، مثل إندونيسيا والدول الإفريقية. وبذلك تسيطر الصين على سلاسل إمداد الصناعات الجديدة، وتضمن استمرارية أسواق التصدير في حال تصاعد فرض الرسوم الجمركية الحمائية ضدّها.
150 ألف شركة تسجّل خسائر
إلا أنّ الاستراتيجية الصينية الجديدة لا تحجب خطورة التحدّيات التي يواجهها الاقتصاد الصيني. فإذا صدقت البيانات التي نشرتها مجلة “ذا إيكونوميست” الأسبوع الماضي، تواجه الصناعة الصينية أسوأ واقع لها منذ أزمة “نمور آسيا” عام 1998. إذ إنّ 30% من الشركات الصناعية تسجّل خسائر، بما يعادل 150 ألف شركة. وآخر المؤشّرات إلى الوضع الصعب إفلاس شركة صناعة السيارات الكهربائية التابعة لمجموعة “إيفرغراندي” العملاقة، “هنغشي”. وهذه ليست إلا واحدة من ثماني شركات كبيرة في القطاع أغلقت أبوابها أو أوقفت الإنتاج نهائياً منذ مطلع العام الماضي. وقد أدّى توقّف هذه المصانع إلى تعثّر مئات الشركات الصغيرة التي تعتمد على تزويدها بالمكوّنات والقطع.
المشكلات في هذا القطاع تشير إلى مأزق أكبر يواجهه مشروع الرئيس الصيني شي جينبينغ الاقتصادي. هذا المشروع يرمي أساساً إلى الهيمنة العالمية في ثلاث صناعات يرتكز عليها اقتصاد المستقبل، وهي السيّارات الكهربائية والطاقة الشمسية والرقائق الإلكترونية. ولتثبيت الهيمنة، عمدت الصين إلى زيادة طاقتها الإنتاجية في هذه القطاعات بشكل هائل، وبما يتجاوز الطلب المؤكّد عليها، بهدف بناء “اقتصاد الحجم” والسيطرة على أكبر حصّة سوقية ممكنة.
نجحت هذه الاستراتيجية في اكتساح الأسواق، وثار غضب الأميركيين والأوروبيين، وتراوحت تعبيراتهم بين اتّهام الصين بالإغراق، أو استخدام تعبير “الطاقة الإنتاجية الزائدة”، الذي تردّد على لسان وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين خلال زيارتها الصين نيسان الفائت.
تكدّس المخزون… والحيوانات أكثر من الأطفال
إلا أنّ الطاقة الزائدة بدأت تؤتي نتائج عكسية، وباتت الشركات تواجه تبعات تكدّس المخزونات غير المبيعة. وما كانت تقوله يلين بات يتردّد على ألسنة المسؤولين الصينيين بشكل أو بآخر من خلال الإشارة إلى الاستثمار الزائد على الحاجة في قطاعات الاقتصاد الأخضر. وثمّة نقاش حول المدى الذي يمكن للحكومات المحلّية في الأقاليم الصينية أن تصل إليه في دعم الشركات المتعثّرة لإنقاذها من الإفلاس، خصوصاً أنّ هذه الحكومات تقع تحت عبء هائل من المديونيّة يُلزمها بالحصافة في الإنفاق.
تضاف إلى كلّ ذلك مشكلات هيكلية أكثر جذرية تتعلّق بالهرم السكّاني المصاب بالشيخوخة، بعد عقود من التطبيق الصارم لسياسة الولد الواحد. ومن الطريف أنّ مصرف “غولدمان ساكس” يتوقّع أن يصل عدد الحيوانات الأليفة في المنازل الصينية إلى ضعف عدد الأطفال دون سنّ الرابعة بحلول عام 2030. ومن عواقب ذلك ضعف الاستهلاك المحلّي، الذي عوّلت عليه الصين ليقود الموجة الجديدة من النموّ، بعد استنفاد الاستثمار الأجنبي طفرته.
إلا أنّه على الرغم من كلّ مؤشّرات التباطؤ، ما زالت الصين المساهم الأكبر في النموّ الاقتصادي العالمي. فصندوق النقد الدولي يتوقّع نموّ اقتصادها بنحو 5% خلال العام الحالي، أي بأكثر من ضعف النموّ المتوقّع للاقتصاد الأميركي. وهذا يعني أنّ الصين ما زالت على مسار تضييق الفجوة مع أميركا، وفي الطريق إلى تجاوزها كأكبر قوّة اقتصادية في العالم، ولو استغرق الأمر وقتاً أطول.
سيكون الملفّ الصيني السؤال الأكثر تعقيداً بوجه الرئيس الأميركي المقبل. فكلّ الأصوات المسموعة في أميركا تؤكّد أنّ المواجهة الاقتصادية الشاملة مع الصين لها آثار كارثية على الاقتصادين الأميركي والعالمي، لأسباب كثيرة ليس أقلّها أنّ السلع الصينية ترفد المستهلك الأميركي بالسلع بتكلفة لا يمكن مجاراتها، وأنّ الاحتياطات الصينية الضخمة لطالما ساهمت في تمويل عجز الخزينة الأميركية. ولذلك من المستحيل صياغة استراتيجية تؤذي الصين ولا تؤذي أميركا.
عبادة اللدن