أخيراً أعلن بنك الاحتياطي الفيدرالي عن احتمال خفض أسعار الفائدة في الأشهر المقبلة، وهو الخبر الذي انتظرته الأسواق لفترة طويلة، وأثار الكثير من الاهتمام والتكهنات داخل الأسواق المالية والاقتصاد بشكل عام، فأشار (جيروم باول)، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، في خطابه الأخير في ندوة جاكسون هول الأسبوع الماضي، إلى أن البنك المركزي يفكر في خفض أسعار الفائدة بسبب التغيرات في الظروف الاقتصادية، وأن الوقت قد حان لإعادة النظر في السياسة النقدية، فلماذا يعد هذا الإعلان مهماً، ولماذا جاء في هذا الوقت، وما هو الأثر المحتمل له؟
لفهم التأثير المحتمل لخفض أسعار الفائدة، من المهم النظر في مسار السياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي خلال العامين الماضيين، فمنذ عام 2022، اتبع الاحتياطي الفيدرالي نهجاً يقوم على زيادة أسعار الفائدة، وهي استراتيجية تبناها لمكافحة أعلى مستويات التضخم التي شهدها الاقتصاد الأميركي منذ عقود، فقد أدت الجائحة، إلى جانب اضطرابات سلسلة التوريد، إلى ارتفاع الأسعار على السلع والخدمات، ونتيجة لذلك ارتفع معدل التضخم بشكل حاد، ليتجاوز بكثير الهدف المحدد من قبل الاحتياطي الفيدرالي عند 2 في المائة.
ولذلك، فقد بدأ الاحتياطي الفيدرالي في رفع سعر الفائدة، وكان الهدف هو تقليص الطلب من خلال جعل الاقتراض أكثر تكلفة، وبالتالي تباطؤ النشاط الاقتصادي وتقليل الضغوط التضخمية، وعلى مدار العامين الماضيين، رفع الاحتياطي الفيدرالي الأسعار عدة مرات، مما أدى إلى ارتفاعها إلى نطاق يتراوح بين 5.25 و5.5 في المائة، وهو أعلى مستوى لها منذ أكثر من عقدين، ويرى الفيدرالي أن هذه الزيادات في الأسعار ضرورية لمنع الاقتصاد من التدهور ولإعادة التضخم نحو النسبة المستهدفة.
وها هو المشهد الاقتصادي يتغير أخيراً، مما دفع الاحتياطي الفيدرالي إلى إعادة تقييم موقفه من السياسة النقدية، من هذه التغيرات وأهمها هو التضخم وهو الدافع الرئيس لزيادة الأسعار، فقد أظهر التضخم علامات على التراجع، وتشير البيانات الأخيرة إلى أن التضخم بدأ في الانخفاض بشكل مطرد، مما يقترب من هدف الاحتياطي الفيدرالي، ويعود هذا التراجع في الضغط التضخمي جزئياً إلى تأثير الزيادات السابقة في الأسعار، التي نجحت في تقليص الطلب الاستهلاكي والسيطرة على الأسعار، وعلاوة على ذلك، تعافت سلاسل التوريد العالمية تدريجياً، مما خفف بعض الضغط التصاعدي على الأسعار.
ومن هذه التغيرات كذلك سوق العمل التي أظهرت علامات على التباطؤ… فبينما لا تزال سوق العمل الأميركية قوية نسبياً، مع انخفاض تاريخي في معدلات البطالة، لوحظ تباطؤ ملحوظ في خلق فرص العمل، بالإضافة إلى ذلك، بدأت الزيادة في الأجور، التي كانت تشكل مصدر قلق بسبب إمكانية أن تزيد من التضخم، في الاستقرار، وتشير هذه التطورات إلى أن الاقتصاد قد يكون في طريقه نحو نمو أكثر استدامة، مما يقلل من الحاجة إلى استمرار ارتفاع أسعار الفائدة.
وقد كان رد فعل السوق على احتمال خفض سعر الفائدة سريعاً وملحوظاً؛ فالأسواق المالية، التي كانت تتوقع استمرار الأسعار المرتفعة، استجابت بشكل إيجابي للخبر، فارتفعت الأسواق، حيث سجلت مؤشرات الأسهم الرئيسية مكاسب مع توقع المستثمرين بيئة نقدية أكثر دعماً، وأدى احتمال انخفاض تكاليف الاقتراض إلى تعزيز معنويات المستثمرين، خاصة في القطاعات الحساسة للفائدة مثل الإسكان والتقنية، وفي أسواق السندات، تراجعت عوائد سندات الخزانة الأميركية، حيث عدل المستثمرون توقعاتهم لخفض الأسعار في المستقبل. كما تراجع الدولار قليلاً أمام سلة من العملات الرئيسية، مما يعكس التوقعات بانخفاض الفروق بين أسعار الفائدة في الولايات المتحدة واقتصادات أخرى.
ويمتد تأثير هذا الإعلان إلى المستوى العالمي، فقد يؤدي خفض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة إلى تراجع قيمة الدولار الأميركي، مما يجعل الصادرات الأميركية أكثر تنافسية عالمياً – وهو أمر محبذ لإدارة (ترمب) – ويمكن أن يوفر ذلك دعماً للقطاعات الأميركية المرتبطة بالصادرات، مما قد يؤدي إلى تضييق العجز التجاري الأميركي، وبالنسبة للبلدان التي ترتبط عملاتها بالدولار أو تعتمد بشكل كبير على الديون المقومة بالدولار، فإن ضعف الدولار قد يمثل تحديات في إدارة سياساتها النقدية الخاصة، فقد تقوم البنوك المركزية العالمية بتعديل سياساتها النقدية استجابة لتحركات الاحتياطي الفيدرالي، على سبيل المثال، قد تؤجل البنوك المركزية في أوروبا وآسيا رفع أسعار الفائدة الخاصة بها أو حتى تفكر في خفضها لمنع عملاتها من الارتفاع بشكل كبير مقابل الدولار، مما قد يضر بتنافسية صادراتها.
إن مجموعة هذه العوامل – انخفاض التضخم واستقرار سوق العمل – قد خلقت بيئة ملائمة للاحتياطي الفيدرالي للنظر في التحول نحو خفض الأسعار، ولا يزال هذا القرار مشروطاً بالبيانات الواردة والتوقعات الاقتصادية المتطورة. وبشكل عام، فإن الإعلان قد حقن جرعة من التفاؤل في الأسواق المالية، فسرته الكثير من الجهات الفاعلة ذلك كإشارة على أن الاحتياطي الفيدرالي ملتزم بدعم النمو الاقتصادي مع إدارة مخاطر التضخم بحذر، والأهم أن هذا القرار يمثل تحولاً في السياسة النقدية العالمية خلال العامين الماضيين، وهو أول بارقة لانتهاء آثار الجائحة.