تسجل معدلات التضخم مستوى جيداً بل وتنخفض بشكل ملحوظ بعد موجة من تشديد أسعار الفائدة هي الأكبر في جيل كامل، ومع ذلك تظل البنوك المركزية متحفظة في إعلان الانتصار. يُعتبر النجاح في كبح وتيرة ارتفاع الأسعار دون حدوث ركود اقتصادي كبير إنجازاً يستحق الإشادة.
على الرغم من أن التوقعات الجديدة من صندوق النقد الدولي تضمنت التوصيات المعتادة بضرورة كبح الديون، والتحذير من أضرار الحمائية، إلا أن اللافت هذه المرة هو الثناء على إدارة السياسة النقدية.
اشتهرت المؤسسة التي تعد الملاذ الأخير للإقراض على مدى ثمانية عقود بسمعة متشددة، مما يجعل الإشادة الواردة في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر يوم الثلاثاء أمراً جديراً بالانتباه. فقد كتب كبير الاقتصاديين، بيير-أوليفييه غورينشاس، في منشور: “انخفاض التضخم دون حدوث ركود عالمي يُعد إنجازاً كبيراً”.
تظهر إشارات على استيعاب صناع القرار لهذه الرسالة رغم تحفظهم في الإعلان عنها. شهدت الأسواق تخفيضات في أسعار الفائدة من بعض أقوى الجهات، مثل “الاحتياطي الفيدرالي” والبنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا. كما انخفضت تكلفة الاقتراض في كوريا الجنوبية وإندونيسيا ونيوزيلندا والفلبين. أما بنك تايلندا الذي قاوم سابقاً الضغوط للتحرك رغم انخفاض التضخم عن الهدف، فقد استجاب الأسبوع الماضي. ونوّه محافظ البنك سيثابوت سوتيوراتناريبوت إلى ضرورة عدم مبالغة المستثمرين في تفسير هذا الخفض، مفضلاً تسميته “إعادة معايرة”. رافقت هذه الخطوات تصريحات متحفظة تشير إلى استعداد للتوقف إذا اتخذت الأسعار مساراً غير مفضل. يمكن تفسير هذه اللهجة على أنها امتداد لتجربة عامي 2021 و2022، عندما تعرض المسؤولون للانتقاد بسبب التأخر، وليس كتعبير عن نية جادة.
تطورات التضخم مشجعة
هل انتهت فعلاً قصة التضخم؟ التطورات كانت مشجعة جداً؛ فقد عاد التضخم في عدد من الدول إلى مستوى الهدف المحدد، أو بدأ بالتراجع عنه. الاتجاه واضح؛ حيث يتوقع صندوق النقد الدولي أن تتراجع الزيادة العالمية في الأسعار إلى 3.5% بحلول نهاية العام المقبل، مقارنة بـ9.4% في الربع الثالث من عام 2022. لتوضيح هذا التوقع، تجدر الإشارة إلى أن هذه النسبة أدنى بقليل من متوسط العقدين اللذين سبقا الجائحة، وهي فترة كان فيها صانعو السياسات قلقين من انخفاض التضخم أكثر من اللازم، وبذلوا الكثير من الجهد من أجل رفعه.
مع تحقيق هذا النجاح، تبدو السلطات النقدية التي ترفض التراجع منعزلة عن بقية العالم. استخدم بنك الاحتياطي الأسترالي عبارة “لا نستبعد شيئاً” كصيغة ملائمة، خاصة في بداية العام عندما كانت بيانات التضخم غير واضحة. كان لهذه اللهجة أيضاً دور في العلاقات العامة؛ حيث أتاحت للمحافظة ميشيل بولوك أن تميز نفسها عن سلفها فيليب لوي.
لكن يبدو أن هذه العبارة لم تعد مناسبة في الوقت الحالي، خصوصاً بعد اعتراف بولوك بعدم وجود زيادات مطروحة مطروحة على الطاولة في الفترة الأخيرة. فالتضخم يتراجع: ارتفعت أسعار المستهلكين بنسبة 2.7% في أغسطس مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، وهي المرة الأولى منذ أغسطس 2021 التي تقع فيها هذه النسبة ضمن هدف البنك الذي يتراوح بين 2% و3%. يحتاج بنك الاحتياطي الأسترالي إلى طريقة أفضل لوصف موقفه بدلاً من القول “لا شيء يستدعي الاهتمام هنا”.
تأثير توقعات صندوق النقد بشأن التضخم
ربما فاتت الكثيرين هذه الأخبار الجيدة، خاصةً وأن معظم عناوين صندوق النقد الدولي كانت حول خفض التوقعات الاقتصادية. على الرغم من أن هذا التعبير دقيق من الناحية الفنية، إلا أنه يخفي نقطة أوسع؛ إذ من المتوقع أن يبلغ النمو 3.2% في عام 2025، وهو نفس معدل هذا العام، أي أبطأ بنسبة 0.1 نقطة مئوية فقط عن التوقع السابق. هذا يعد نتيجة إيجابية بالنظر إلى التكاليف المتوقعة للسيطرة على التضخم. ورغم التحديات في الصين، فإن الصورة العالمية ليست قاتمة؛ إذ تعوض الزيادة في أرقام الولايات المتحدة بعض الضعف في الصين.
الإشادة بصندوق النقد الدولي ليست شائعة بقدر الإشادة بالبنوك المركزية، فكلاهما ليس مثالياً. كان صندوق النقد لوقت طويل يُعرف بتوجيه المحاضرات عن فضائل الاقتصاد التقليدي، وكانت الدول التي تحصل على قروض طارئة غالباً ما تخضع لشروط صارمة وتتخلى عن بعض السيطرة على أجنداتها المحلية. الصورة المشينة التي التقطت في عام 1998 لمدير صندوق النقد الدولي آنذاك، ميشيل كامديسوس، وهو يقف في مستوى أعلى من الرئيس الإندونيسي سوهارتو أثناء إجباره على توقيع اتفاقية، أصبحت واحدة من الصور التي لا ينساها التاريخ. إذا كانت هناك صورة واحدة من تاريخ صندوق النقد الدولي قد يتمنى الصندوق لو يستطيع محوها، فستكون تلك الصورة، لأنها تفوح برائحة الاستعمار.
بغض النظر عن الجدل حول سرعة خفض الفائدة، تبدو الصورة الكبرى واضحة. ليس الأمر مجرد معركة تم الانتصار فيها؛ بل ربما انتهت الحرب أيضاً. فقط يُفضل عدم إعلان ذلك بشكل صاخب، حتى لا يُساء الفهم.