الاقتصاد الأميركي في وضع جيد.. فلماذا المخاطرة؟

سجلت الولايات المتحدة للتو أرقاماً رائعة أخرى عن حالة الاقتصاد. فقد حقق الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نمواً سنوياً بلغ 2.8% في الربع الثالث من هذا العام، وانخفض مقياس رئيسي للتضخم إلى ما يقرب من المستوى المستهدف من قبل الاحتياطي الفيدرالي.

هذا هو مضمون النمو المستدام الذي “يرفع جميع القوارب” ويدفع الأجور الحقيقية إلى أعلى، وهو مزيج يحلم به كثير من صناع السياسات.

من المؤسف أن يتغير هذا المسار الآن، لكن الانتخابات الرئاسية الوشيكة تشير إلى أننا على مرمى حجر من القيام بذلك.

تحت السطح، اعتمد أداء الاقتصاد القوي في الربع الثالث على أكبر زيادة في الإنفاق الاستهلاكي منذ أوائل عام 2023. ومن اللافت للنظر أيضاً ذلك الاتجاه المستمر في استثمارات الشركات بقيادة الإنفاق المتعلق بسباق التسلح في مجال الذكاء الاصطناعي.

في الوقت نفسه، ارتفع معامل انكماش نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي –وهو مقياس التضخم الذي يفضله صناع السياسة في بنك الاحتياطي الفيدرالي– بوتيرة سنوية تبلغ 2.2% فقط عن فترة الأشهر الثلاثة الماضية.

تحسن الاقتصاد تحت إدارة بايدن

ربما لعبت السياسات الصناعية للرئيس جو بايدن دوراً استباقياً في كل ذلك من خلال قيادة نهضة في التصنيع والتشييد، لكن إدارة بايدن-هاريس تستحق أيضاً أن ينسب لها بعض الفضل لمجرد ابتعادها عن الوقوف في طريق تكيف قوى السوق وقيام الاحتياطي الفيدرالي بعمله. ففي بعض الأحيان، يكون أفضل دور تقوم به الحكومة هو البقاء على الهامش.

على أي حالٍ وصلنا إلى هذه النقطة، فيبدو أن البلاد كانت تعتلي موجة نادرة من النمو الذي اعتمد على الإنتاجية بما يسمح بانتعاش النشاط الاقتصادي، من دون أن يؤدي إلى اشتعال التضخم.

شهدنا بالفعل طفرة في تكوين الثروة بقيمة 30 تريليون دولار منذ بداية عام 2021، مدعومةً بصعود متواصل في سوق الأسهم وارتفاع في حقوق الملكية العقارية.

كذلك ارتفعت الأجور الاسمية، وإن كان ذلك بالكاد يكفي لمواكبة الزيادة في أسعار المستهلك. ومع ذلك، قد يبدأ تحسن إيرادات الأسر في الظهور بشكل أكثر وضوحاً خلال الفترات القادمة، إذا سُمح باستمرار الاتجاهات الحالية.

مخاطر انتخاب ترمب على الاقتصاد

ما الذي قد يوقف هذه العملية؟ يدير الرئيس السابق دونالد ترمب حملته الانتخابية لفترة رئاسية أخرى على أساس أنه سيعيد التفكير بشكل كبير في طريقة عمل الاقتصاد العالمي. فهو يريد إعادة فرض الرسوم الجمركية إلى درجة لم نشهدها منذ أجيال، متخلياً عن العقيدة الاقتصادية الحديثة التي تقول إن هذه الرسوم يتحملها المستهلكون الأميركيون في نهاية المطاف.

كما يدعي أنه يريد ترحيل ربما الملايين من المهاجرين غير الشرعيين، الأمر الذي من شأنه أن يفرق شمل العائلات ويتسبب في نقص العمالة في قطاعات مثل الإسكان ورعاية الأطفال. وأخيراً، تحدث علناً عن رغبته في فرض نفسه على قرارات السياسة النقدية للبنك المركزي، مما قد يؤدي إلى إلغاء تقليد مصداقية واستقلالية مجلس الاحتياطي الفيدرالي الذي كان حاسماً في إعادة مارد التضخم إلى قمقمه.

حتى لو صدقنا أن ذلك ليس سوى خطاب انتخابي في الغالب، فإن فوز ترمب ستعقبه شهور أو حتى سنوات من الشك والغموض الذي قد يؤثر على استثمار الشركات ويوقف الاتجاهات الإيجابية في مساراتها. ففي ظل الرسوم الجمركية المقترحة وحدها، قد تواجه الشركات الأميركية ارتفاعاً وتقلباً في كل من النفقات الرأسمالية وتكلفة مدخلات التصنيع. وفي مثل هذا السيناريو، من الواضح أن بعض الشركات ستختار التراجع عن الاستثمار.

استمرار معاناة الأسر الأميركية

بالتأكيد، أنا متعاطف مع الإحباط الذي يعاني منه ملايين الأميركيين الذين يشعرون بأن أسرهم لم تحظ بنصيب من الازدهار الاقتصادي وانتعاش سوق الأسهم. فالارتفاع الأخير في مؤشر “إس أند بي 500” لم يجعل الحياة أسهل بالنسبة لثلث الأميركيين الذين يستأجرون منازلهم، و4 من كل 10 أميركيين لا يملكون أسهماً في البورصة.

لحقت زيادة الأجور بمعدلات التضخم، غير أن ذلك لم يحدث إلا لأن العمال قاتلوا بشدة من أجل الحصول على هذه الزيادة، لقد ناضلوا للمحافظة على مستوى معيشتهم فقط. وفي الوقت نفسه، تسبب الارتفاع الشديد في فائدة الرهن العقاري وانخفاض المعروض في جعل امتلاك المنازل بعيد المنال بالنسبة للكثيرين.

لقد تركت هذه الصراعات أثراً لا يمحى على حياة الناس على مدى السنوات الأربع الماضية، وهي تفسر إلى حد كبير أسباب هذا الأداء القوي لترمب في استطلاعات الرأي.

عانى الأميركيون من بضع سنوات صعبة، ومن المفهوم أنهم يحنّون إلى أداء اقتصادي أفضل. غير أن انخفاض التضخم يعني بوضوح أن هناك فرصة جيدة لارتفاع الأجور الحقيقية وانخفاض فائدة الرهن العقاري في المستقبل إذا امتنعنا ببساطة عن إثارة المتاعب. ومن الأفضل لنا جميعاً ألا نركز على حنيننا إلى اقتصاد ترمب، وإنما على ذلك النوع من الحنين الذي قد نشعر به بعد أربع سنوات من الآن للاقتصاد القوي في أواخر عام 2024. هل سنتذكره باعتباره فرصة اغتنمناها أم فرصة بددناها؟

باختصار

حقق الاقتصاد الأميركي نمواً قوياً بنسبة 2.8% في الربع الثالث من العام، مع انخفاض التضخم نحو المستوى المستهدف من الاحتياطي الفيدرالي. يأتي هذا الأداء بفضل زيادة كبيرة في الإنفاق الاستهلاكي، واستمرار الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، مما ساهم في تحقيق نمو اقتصادي قائم على الإنتاجية دون ارتفاع كبير في التضخم. وقد لعبت السياسات الصناعية للرئيس بايدن دوراً في تعزيز هذا النمو، بينما شهدت الأجور والموارد المالية للأسر تحسناً طفيفاً.

مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، يثير احتمال فوز ترمب مخاوف بشأن الاقتصاد، حيث يخطط لإعادة فرض رسوم جمركية عالية والقيام بترحيل مهاجرين، مما قد يؤدي إلى نقص في العمالة وارتفاع تكاليف الإنتاج. وعلى الرغم من التحسن الاقتصادي الحالي، يظل بعض الأميركيين غير مستفيدين، مما يزيد من دعمهم لترمب. ومع ذلك، فإن الاستقرار الاقتصادي الحالي قد يوفر فرصاً لزيادة الأجور وانخفاض فائدة الرهن العقاري، إذا استمر من دون تغييرات جذريّة.