في أواخر التسعينيات حينما وصلت سياسات الدولار القوي إلى قمتها، كان وزير الخزانة روبرت روبين الأميركي حينذاك، يتعرض للسؤال بشكل متكرر لمعرفة تفاصيل دقيقة بشأن تلك الاستراتيجية.
كان روبين يكره أي تغيير في سياسة الدولار القوي، كون أصغر انحراف أو اختلاف في التفسير يمكن أن يسبب اضطرابات ضخمة في العملات الأجنبية. وفي المقابل، كان الصحفيون يضغطون عليه لمعرفة ما إذا كانت القوة المستمرة للدولار تعزز المصالح الأميركية.
كان حرص روبين في محله، ولم يكن الرئيس السابق لبنك “غولدمان ساكس” يعارض التغيير بين الحين والآخر. ففي حالات نادرة كان من مصلحة واشنطن السماح للدولار بالضعف أو حتى بيعه. وكان روبين مدعوماً بطفرة استمرت فترة طويلة جذبت الأموال إلى الولايات المتحدة. كما كانت الظروف الاقتصادية في تلك الفترة تدعم هذا التوجه، واتسم الموقف برمته حينها بالبراغماتية.
تحديد بوصلة اليوان الصيني
الآن يمكن للمسؤولين الصينيين أن يتفهموا هذا النهج في ظل التحديات الاقتصادية التي يواجهونها. فالموقف الذي تتبناه بكين منذ فترة طويلة هو الالتزام بالحفاظ على “استقرار اليوان بشكل أساسي”. لكن مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، يترقب المتعاملون لمعرفة مدى استقرار العملة الذي يمكن الحفاظ عليه في ظل تهديدات بزيادة التعريفات الجمركية بشكل كبير.
قد يعني ذلك إضعافاً للعملة بشكل واضح ولكن تدريجياً على مدى السنوات القليلة المقبلة، بما لا يشكل خطراً كبيراً من حدوث اضطرابات كبيرة أو زيادة احتمالات هروب رؤوس الأموال؟. وأوضح بنك الشعب الصيني مزايا الوصول إلى “مستوى توازن معقول” في قيمة اليوان.
إن ما يُعتبر عادلاً أو منطقياً قد يختلف بالطبع حسب الظروف السائدة. فالصين قد تكون بحاجة إلى استخدام بعض الوسائل لامتصاص الصدمة حال فرض رسوم جمركية بنسبة 60% على صادراتها بالفعل. وسعر صرف العملة قد يكون أفضل وسيلة لمواجهة الضغوط، والأوضاع تدعم هذا الخيار.
“خفض اليوان” خط الدفاع الأول
السماح لليوان-الذي أصبح أضعف بالفعل مما كان عليه عندما فاز ترمب لأول مرة قبل ثماني سنوات- بالتراجع من المرجح أن يكون أحد خطوط الدفاع الأولى. فقد انخفض بنحو 3% خلال الربع الحالي، وهبط مقابل الدولار في معظم الأيام منذ إجراء الانتخابات.
تم تداول اليوان عند حوالي 7.2 يوان نهاية الأسبوع. ويتوقع أغلب خبراء الاقتصاد الذين شملهم مسح أجرته “بلومبرغ” أن يسمح بنك الشعب الصيني بتراجعه بشكل أكبر، ربما بالتزامن مع اتخاذ تدابير أخرى مثل خفض أسعار الفائدة، وزيادة الإنفاق الحكومي (عبر عجز الموازنة).
انقسمت الآراء حول مدى التحرك المحتمل لليوان، ولكنه من غير المرجح أن يتجاوز مستوى 8 يوانات أمام الدولار. لن يرغب الرئيس الصيني شي جين بينغ بأن تتراجع قيمة اليوان بشكل حاد. وقد يحد البنك المركزي من التقلبات اليومية في أفضل الأوقات.
يمكن للقوى السوقية أن تكون مؤثرة أيضاً، وذلك لأن النمو البطئ وانخفاض تكاليف الاقتراض، يدفعا معظم العملات إلى الانخفاض. لكن السلطات الصينية تتحكم بشكل صارم في التوجهات الاقتصادية. وخلال يوم الأربعاء، ظهرت أحد المؤشرات المبكرة على توخي بنك الشعب الصيني الحذر من تحركات اليوان أحادية الاتجاه، عندما حدد المسؤولون السعر المرجعي اليومي الذي بدأت بع التداولات تقريباً عند مستوى أعلى مما توقعه المتعاملون.
تكرر نفس الإجراء في اليوم التالي (الخميس). ويبدو أن الهدف هو تراجع تدريجي، وليس حدوث تخفيض حاد في قيمة العملة. (حدثت نفس العملية المثيرة في عام 2015، وأربكت الأسواق العالمية. وكانت تجربة مؤلمة سواء للصين وخارجها).
8 يوانات مقابل الدولار
السؤال الآن هو لماذا يُعد 8 يوانات لكل دولار سعراً مهماً للغاية؟، فبصرف النظر عن كونه رقماً سهلاً ومألوفاً، فالرقم له أهمية رمزية لأنه قبل يوليو 2005، تم تثبيت العملة الصينية عند حوالي 8.3 أمام الدولار لأكثر من عقد. عندما أوقفت الصين ربط العملة لصالح نظام أكثر مرونة ولكن ليس بحرية تامة، وكان يُنظر إلى ذلك على أنه تنازل تحت ضغط من الولايات المتحدة.
كان الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش حينذاك، حريصاً على عرقلة مشاريع القوانين التي تدور في الكونغرس، وتهدف إلى فرض عقوبات على التجارة.
عودة سعر صرف العملة الصينية إلى 8 أمام الدولار الآن قد ترقى إلى القول إن المرونة كانت بمثابة تصرف خاطئ. وما لم تكن الصين تريد أن يصبح اليوان عملة عالمية قوية، فإنها ستكون حذرة من التحرك، كونه يُظهر تراجعاً عن طموحاتها.
مناقشة مسائل العملات الأجنبية والتجارة، غالباً ما تتضمن الحديث عن احتمال التوصل إلى اتفاق كبير بين الدول أو الأطراف المعنية. وجرت الإشارة إلى “اتفاق بلازا” في عام 1985، تم بموجبه إقناع ألمانيا واليابان برفع عملتي البلدين بشكل كبير، خلال ندوة في سنغافورة الأسبوع الماضي التي نظمتها مؤسسة “غافيكال ريسيرش”(Gavekal Research). وأشار مسؤولا المؤسسة لويس-فينسنت جاف وآرثر كروبر إلى أنه سيكون من الصعب التوصل إلى اتفاق شامل الآن، لكن “اتفاقًا” أكثر تواضعاً هو أمر قابل للتحقيق.
عواقب تعريفات ترمب الجمركية
لن يستفيد ترمب و شي من التعريفات الجمركية المرتفعة للغاية وتبادل فرض العقوبات. لقد انتُخِب ترمب جزئياً بسبب الاستياء من التضخم، وهو ما تسفر عنه الرسوم الجمركية المرتفعة للغاية.
فيما يواجه شي تحديات بسبب تباطؤ نمو الاقتصاد ولا يرغب في أن يُستبعد تماماً من الفرص التجارية لدى أكبر سوق في العالم.( السوق الأميركية).
وقد يتم التوصل لاتفاق تجاري يُظهر ترمب بموجبه ضبط النفس إزاء بعض السياسات في مقابل أن تزيد الصين شراء المنتجات الزراعية والبضائع الأميركية. هذا من شأنه أن يتيح للطرفين إعلان النصر والمضي قدماً دون مزيد من التصعيد.
هذا الوضع يفترض بشكل كبير أنهم سيلتزمون بالخطة المتفق عليها، ويحتاج كل منهم إلى إبلاغ جماهيره بأنه تفاوض جرى من موقف قوة. يوجد سبب آخر يجعل التوصل إلى صفقة شاملة مثل “اتفاق بلازا” أمراً بعيد المنال، وهو الاعتقاد في اليابان والصين بأن طوكيو قد تأثرت بشكل سلبي من الاتفاق.
كما يجب أن نتذكر أن الحكومات اليوم لا تملك نفوذاً كبيراً على الأسواق مقارنة بما كان عليه الحال قبل أربعة عقود. ومن الأفضل السعي لتحقيق اتفاق تجاري بسيط وبالطبع عملي، وهذا أفضل من الدخول في صراع تجاري طويل ومعقد.
في الوقت نفسه، قد لا يكون من السيء بالنسبة لبكين تشجيع أو دفع اليوان للانخفاض. ففي نهاية المطاف، خلص روبين في مذكراته إلى أن العوامل الاقتصادية الأساسية هي التي تحرك العملات أكثر من تدخل الدولة. وقد تدفع الظروف اليوان نحو الانخفاض دون تدخل، وهو أمر قد يكون مفيداً للصين.