حرصت معظم التحليلات الاقتصاديّة –خلال الشهرين الماضيين- على الإشارة إلى أدوات الاستقرار النقدي التي يمتلكها مصرف لبنان، ومنها كفاية الاحتياطات المُتاحة للتدخّل في السوق، وضبط سعر الصرف. ومع ذلك، وبعد انتهاء المرحلة الأصعب من الحرب الإسرائيليّة على لبنان، بات من المهم التنويه بأنّ تلك المرحلة لم تكن نزهة بالنسبة إلى النظام المالي اللبناني أو المصرف المركزي. إذ حتّى منتصف الشهر الحالي، كان مصرف لبنان قد خسر أكثر من نصف مليار دولار من احتياطاته، مقارنةً بحجم هذه الاحتياطات في بداية تشرين الأوّل الماضي. هذا الرقم وحده، كان كافيًا للتذكير بالكلفة التي تكبّدها النظام المالي المحلّي، للتعامل مع الحاجات الطارئة التي فرضتها الحرب.
أسباب هذا التراجع خلال الحرب تتنوّع، ما بين السحوبات الاستثنائيّة والإضافيّة التي فرضتها تعاميم مصرف لبنان، والتي تحمّلها المصرف من احتياطاته، إلى جانب حاجات الإنفاق العام المُستجدّة، بالإضافة إلى تدخّلات المصرف في سوق القطع. غير أنّ الثابت والأكيد هو أنّ أرقام ميزانيّة المصرف ستعكس في نهاية الشهر الحالي تداعيات استمرار الحرب خلال الأسبوعين الماضيين، فيما ستتحمّل احتياطات المصرف في مطلع الشهر المقبل كلفة الدفعة الإضافيّة للمودعين التي نصّ عليها آخر تعاميم الحاكم بالإنابة وسيم منصوري. أي بمعنى آخر، لن يعكس رقم “النصف مليار دولار” كامل الكلفة التي ستترتّب على مرحلة الحرب الواسعة النطاق، بانتظار التحوّلات التي ستطرأ على ميزانيّة المصرف خلال الفترة المقبلة.
أرقام ما بعد النزيف
ينطلق مصرف لبنان اليوم من قاعدة احتياطات تقارب الـ 10.2 مليار دولار أميركي، وفقًا لأرقام منتصف هذا الشهر، وهو ما يمثّل انخفاضًا بنسبة 5% مقارنة بأرقام ما قبل توسّع الحرب. ومع إضافة التراجعات المتوقّعة خلال النصف الثاني من الشهر الحالي، والنصف الأوّل من الشهر المقبل جرّاء السحوبات الاستثنائيّة، يمكن لهذه الاحتياطات أن تتراجع إلى ما دون سقف الـ 10 مليار دولار، وهو ما قد يعكس تراجعًا بقيمة إجماليّة تتراوح بين 700 و800 مليار دولار مقارنة بأرقام ما قبل الحرب (كما أشرنا سابقًا، كان هذا التراجع قد اقتصر على نصف مليار دولار حتّى منتصف الشهر الحالي).
ورغم حساسيّة هذا التراجع، ستبقى أرقام الاحتياطات أعلى بقرابة 1.42 مليار دولار، مقارنة بحجمها في أواخر ولاية رياض سلامة. وبهذا الشكل، لن يخسر المصرف المركزي الزيادة الإجماليّة التي حققها في احتياطاته، في المرحلة الممتدة بين نهاية ولاية سلامة وتوسّع نطاق الحرب في شهر أيلول. وهذا الفائض، سيبقى كافيًا لتأمين الحاجات الأساسيّة التي يفرضها تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع، ناهيك عن إمكانيّة استعمال الدولة لجزء من الأموال العامّة التي تراكمت في مصرف لبنان خلال الأشهر الماضية، أو حتّى زيادة سقوف السحوبات الشهريّة للمودعين. وعلى هذا الأساس، من غير المتوقّع أن يهتز الاستقرار النقدي على مستوى سعر الصرف في المدى المنظور.
أرقام السيولة المتداولة بالليرة اللبنانيّة تؤكّد هذا الواقع. إذ حتّى منتصف الشهر الحالي كان حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالعملة المحليّة خارج مصرف لبنان مازال مضبوطًا عند حدود 49.95 ترليون ليرة لبنانيّة فقط، وهو ما يوازي 558 مليون دولار أميركي وفقًا لسعر الصرف الرائج اليوم. وبذلك، يكون حجم هذه الكتلة مازال متواضعًا للغاية، قياسًا بكميّة السيولة المتوفّرة للاستعمال لدى مصرف لبنان بالعملة الصعبة، وهو ما يمكّن المصرف المركزي من التعامل مع أي طلب على الدولار الأميركي في السوق الموازية. وحتّى اللحظة، يواظب مصرف لبنان على إجراءات معيّنة لضبط هذه السيولة المتداولة بالليرة، من قبيل تأمين رواتب موظفي القطاع العام بالدولار الأميركي، للحؤول دون ضخ كتلة كبيرة من الليرات اللبنانيّة في السوق في أواخر كل شهر.
زيادة في أسعار اليوروبوند
على هامش هذه الأرقام، كان من اللافت ارتفاع أسعار سندات اليوروبوند -سندات الدين العام بالدولار الأميركي- بنسبة 3% خلال هذا الأسبوع، وهو ما عكس إقبالًا عليها من قبل المستثمرين. وفي النتيجة، ارتفع سعر السندات -استحقاق عام 2031- إلى أكثر من 9.3 سنت للدولار، أي 9.3% من قيمة السند الإسميّة، وهو ما مثّل أعلى مستوى لهذه الأسعار منذ شهر أيّار 2022. وتجدر الإشارة إلى أنّ أسعار هذه السندات واظبت على تسجيل ارتفاعات متقطّعة، منذ أيلول الماضي، أي منذ توسّع الحرب الإسرائيليّة على لبنان، لتشير إلى رهان بعض المستثمرين على تسويات سياسيّة معيّنة يمكن أن تلي الحرب.
ومنذ بداية هذا الأسبوع، كانت المنشورة التحليليّة في بعض الشركات الماليّة الدوليّة تشير إلى أنّ الأسواق باتت ترقّب اقتراب استحقاق إعادة هيكلة هذه السندات، بعد دخول البلاد في مرحلة وقف إطلاق النار، ومن ثم تفعيل عمل المؤسّسات الدستوريّة. مع الإشارة إلى أن هذا التفاؤل جاء مصحوبًا باقتراب المهلة المتاحة أمام حملة السندات للمطالبة القانونيّة بفوائد سنداتهم، في شهر آذار المقبل، وهو ما سيمثّل عاملًا ضاغطًا على الدولة اللبنانيّة لمعالجة تخلّفها عن الدفع. وعلى أي حال، من المرتقب أن يبقى هذا الملف مربوطًا بمسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي، المرتبط بدوره باستحقاق إعادة هيكلة القطاع المصرفي.
في النتيجة، سيبقى النظام المالي وسائر المؤشّرات النقديّة تحت وطأة الضغوط المرتبطة بنتائج الحرب، غير أنّ هذه الضغوط لن تكون كفيلة بكسر التوازنات القائمة اليوم، كما تدل أرقام مصرف لبنان حاليًا. المشكلة الأساسيّة، سترتبط بالملفات الاقتصاديّة، لا النقديّة، أي تلك المتعلّقة بالقطاعات المتضرّرة وإشكاليّات التعويض وإعادة الإعمار، ناهيك عن أثر الحرب على معدلات البطالة والهجرة واستنزاف رأسمال البلاد البشري.
علي نور الدين