عن مفاسد الاستدانة وفتات العون الإنمائي

صدر قبل أيام التقرير السنوي للبنك الدولي عن الديون الدولية، فأكد استمرار أخطر ما يواجه محاولات التنمية، وهو نضوب مصادر التمويل الخارجي إلا قليلاً، واستنزاف مصادر التمويل المحلي لخدمة الديون المتراكمة. فبعد ارتفاع أسعار الفائدة لأعلى مستوى لها في 20 عاماً، أنفقت البلدان النامية 1.4 تريليون دولار في خدمة الديون، كان منها ما يزيد على 400 مليار دولار من تكاليف الفوائد التي ارتفعت بمقدار الثُّلث. وفي هذه الأثناء تحولت التدفقات المالية من مقرضي القطاع الخاص إلى أرقام سلبية؛ إذ سحب دائنو القطاع الخاص من البلدان النامية تمويلاً فاق ما قدموه لها بمقدار 141 مليار دولار منذ عام 2022.

وبعد ما أمسى الاقتراض من الأسواق الدولية عسيراً على كثير من البلدان النامية لارتفاع أعبائه، لم يعد لها سبيل إلا المؤسسات التنموية الدولية التي منحتها مجتمعة 85 مليار دولار. قد يلبي هذا بعض الاحتياجات العاجلة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أهداف التنمية الحرجة في البلدان الأفقر والأقل دخلاً، ولكنه غير كافٍ بحال للبلدان المتوسطة الدخل. كما لا تحظى الدول المتوسطة الدخل بشروط تفضيلية للاقتراض من المؤسسات التنموية، كما تصطدم بأسقف للتمويل لا يمكن تجاوزها من هذه المؤسسات التي صارت المحدودية النسبية لرؤوس أموالها المدفوعة، وخشيتها من فقدان تصنيفها الائتماني المتميز، موانع لها من تقديم تمويل أكبر للبلدان المتوسطة الدخل.

وتجد اليوم بلداناً نامية بين مقترض متعسر أعلن تعثره عن سداد الديون المستحقة، ومقترض يتحاشى التخلف عن سداد الديون بالتخلف في التعليم والرعاية الصحية ومجالات الاستثمار الأساسية للتنمية. فعندما تتجاوز خدمة الدَّين نصف الموازنات العامة، على النحو المشهود في بعض البلدان الأفريقية، فمن أين لها تمويل التنمية، وإن أُعدت بشأنها استراتيجيات مطولة؟ فبغير التمويل تنتهي استراتيجيات التنمية إلى ذكريات مؤلمة لطموحات تحطمت على صخور واقع غابت عنه أولويات، وطغى عليه سوء إدارة الموارد، وافتراضات سخية في حسن ظنها في تدفقات مُيسَّرة للتمويل الدولي.

والأدلة المحققة من تقارير تمويل التنمية، أن عهد المساعدات الإنمائية الدولية الذي شهد تغيرات منذ بداياته بعد الحرب العالمية الثانية، قد أوشك على المغيب. فقد تدفقت هذه المساعدات، جزئياً وضمنياً، كنوع من التعويض الرمزي عن النهب الاستعماري لثروات الأمم المستعمَرة لعهود طال أمدها. ومن العجب أن أناساً في دوائر اتخاذ القرار يرددون عبارات عن عالم شديد التغير، والصراعات الجيوسياسية، ثم يدهشك اندهاشهم من تراجع التمويل الدولي المُيَسَّر، وصعوبة إقناع مصادره التقليدية بتعهدات جديدة، وتكرار النكوص عن التعهدات.

ليست هذه دعوة للتخلي عن بذل الجهود الواجبة لحشد التمويل الدولي من كافة مصادره، فهناك حجج مقنعة بمنافعه المتبادلة، إذا أحسن كل طرف الاستفادة منها في إطار المشاركات الدولية. ولكنها دعوة لدراسة الواقع الدولي الجديد بتغير أوزانه الاقتصادية وتوجهاته السياسية.

كما أن الأمر يتطلب علاجاً لتفاقم الأزمة الراهنة الصامتة للمديونية الدولية، بخاصة مع تغير طوائف الدائنين الحاليين عما كان عليه الوضع من قبل، ولتنظر مثلاً في نسبة دائني نادي باريس اليوم التي لا تتجاوز 10 في المائة من المديونية الدولية، مقابل وزنهم النسبي الذي بلغ 40 في المائة عند بداية القرن. فهل يتسنى التعامل مع الدائنين الجدد بقواعد التعامل مع القدامى؟

والأجدى مما سبق أن تُراجع جذور أزمة المديونية الدولية. ففي حين رسخت أهداف التنمية المستدامة لإطار مرجعي للتطور الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والحوكمة، فقد تركت الباب مُتَّسِعاً لكل دولة، كما ينبغي لها، لتبني نموذج النمو المناسب لها. فهناك بلدان تبنَّت نموذجاً للنمو المتوازن الشامل للكافة باستثمارات في البشر والبُنى الأساسية والتكنولوجية والبيئية، بتمويل يعتمد على تعبئة المدخرات والموارد المحلية وريادة القطاع الخاص، فنجَتْ من فخاخ الاستدانة. وهناك بلدان اختارت طريقاً اختلفت أولوياته، وكان الاعتماد فيها على مشاريع ذات توجه داخلي تتولاها بيروقراطيات الدولة وتمولها بقروض محلية أو خارجية، فجَنَتْ عواقب ما اختارت.

مع الإعداد للمؤتمر الرابع لتمويل التنمية الذي سيعقد بإسبانيا في يونيو (حزيران) 2025، اقترحت للنقاش ملامح تتناول مسألة الديون والاستدامة المالية. وهي ترتكز على 4 قواعد:

1- معايير منع أزمات قادمة للمديونية بقواعد للاقتراض الحصيف والإقراض المنضبط.

2- اقتراحات لمرونة الحيِّز المالي العام للدولة، للاستثمار في مسارات تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

3- إصلاح البناء المالي العالمي، بما يحقق سرعة تسوية الديون العامة المتعثرة، وسرعة عودة الاقتصاد لمسار التنمية.

4- مراجعة منهج التحقق لسلامة الديون للبلدان النامية المنخفضة والمتوسطة الدخل، بما يعكس أولويات الإنفاق على مجالات التنمية المستدامة، ويُدخل مخاطر تغيرات المناخ والطبيعة في الاعتبار، ويميز بين الاستثمار والإنفاق الاستهلاكي، ويفرق بين مشكلات السيولة العارضة والمخاطر المؤدية إلى التعثر والتخلف عن السداد.

ربما أشار البعض لحلول تستند إلى مبادرات صدرت من مجموعة العشرين وغيرها لتسوية الديون، وربما اختصت بعض المبادرات ببلدان أفقر وأكثر عرضة للتقلبات، وقد يتبنى البعض الآخر نماذج تحتفي بالابتكار المالي وإجراءات المبادلة؛ فلا بأس من النظر في مناسبتها حالة بحالة. ولكن هناك حلقات مهمة ما زالت مفقودة عملياً، مثل مواجهة أزمات ديون البلدان المتوسطة الدخل، وكذلك التعامل مع الدائنين الرسميين الجدد، ومقرضي القطاع الخاص، وحالات الإفراط في الاستدانة المحلية. وفي هذه المجالات بدائل متطورة، آن وقت طرحها للتطبيق.

د. محمود محيي الدين