ودائع وفوائد خياليّة بالليرة: الدلالات والمخاطر على المودعين

على مدى الأيّام الماضية، أثارت المصارف اللبنانيّة زوبعة من النقاش الحاد، بعدما عادت لمنح فوائد خياليّة تتراوح بين 20% و45% على الودائع الجديدة بالليرة اللبنانيّة. في بادئ الأمر، كان ثمّة محاولة لتسويق هذا التطوّر كحدث إيجابي، أي بوصفه دلالة على عودة “الثقة” (؟) بالليرة، وبدورها كأداة ادخار. غير أنّ السوق والرأي العام لم يبتلعا هذه السرديّة، بل أثارت هذه العروضات المخاوف والأسئلة، أكثر مما ساهمت بتطمين اللبنانيين إزاء مستقبل الوضع النقدي. إذ في الأساس، لا تعبّر الفوائد الخياليّة عن الكثير من الثقة أو الادخار الآمن، بقدر ما تعبّر عن الاستماتة للحصول على السيولة لسبب ما. هكذا يقول علم الاقتصاد.

كثيرٌ من اللبنانيين سألوا: ما هي المخاطر المحيطة بهذه العروض السخيّة؟ وهل عدنا إلى نموذج “بونزي” آخر، شبيه بمرحلة ما قبل الـ 2019؟ وفي الأصل، ماذا تفعل المصارف بهذه الودائع الجديدة، طالما أنّها ممتنعة عن الإقراض الواسع النطاق بأي عملة؟ وثمّة من يسأل أيضًا، من أين ستدفع المصارف هذه الفوائد؟ هل ستُراكم هذه المُستحقات الجديدة المزيد من الكلفة، أي المزيد من الخسائر، في الميزانيّات المصرفيّة؟ ألن يؤثّر ذلك، إن كان صحيحًا، على القيمة التي يمكن أن تضمنها المصارف للمودعين “القدامى”؟

تطول لائحة الأسئلة، التي تحاول “المدن” الإجابة عليها في هذا المقال.

معادلة العرض والطلب وشح السيولة
في أسواق المال، تُحدَّد الفائدة -لكل عملة على حدة- وفق قاعدة العرض والطلب، تمامًا كما هو حال أي سلعة. الفائدة المرتفعة والخياليّة، تعكس طلبًا مستعرًا من جانب المصارف، التي تحاول تأمين هذه العملة بشتّى الطرق، في مقابل محدوديّة العرض. وقبل الحديث عن المخاطر والثقة بالليرة أو بالمصارف، على النقاش أن يبدأ بتفنيد العوامل التي أنتجت هذه العروضات، ومنها طبعًا سياسات مصرف لبنان، التي تؤثّر على العرض والطلب في آنٍ واحد.

بطبيعة الحال، لشحّ المعروض النقدي -من الليرة اللبنانيّة- أسبابه الواضحة. ليس سرًا أنّ مصرف لبنان يعتمد منذ أكثر من سنة على سياسة انكماشيّة حادّة، تقوم على تجفيف السوق من الليرات اللبنانيّة. فحجم السيولة المتداولة بالليرة في السوق، والذي كان يوازي نحو 81.2 ألف مليار ليرة لبنانيّة في أواخر حزيران الماضي، بات يوازي اليوم نحو 55.8 ألف مليار ليرة، بحسب أرقام مصرف لبنان في منتصف هذا الشهر.

أي بمعنى آخر، تمكّن مصرف لبنان من امتصاص 31.28% من السيولة المتداولة بالليرة، منذ أيّار 2023. والأداة الرئيسيّة لامتصاص هذه السيولة، كانت مراكمة الأموال العامّة، التي يجري تحصيلها عبر الضرائب والرسوم، واحتجازها في مصرف لبنان والامتناع عن صرفها، عبر سياسة تقشفيّة حادة متفق عليها بين الحكومة ومصرف لبنان.

وبموازاة ذلك، ثمّة سبب آخر لشح المعروض. فالمصارف لم تستعد بعد الثقة، التي تخوّلها اجتذاب الودائع، ولو بالليرة اللبنانيّة. واستقرار سعر الصرف، لم يحقّق الثقة بمستقبل العملة الوطنيّة، في ظل الغموض المحيط بأدوات السياسة النقديّة المعتمدة، والشكوك باستدامة الوسائل المعتمدة لتثبيت سعر الصرف. وتثبيت سعر الصرف، بالشكل القائم حاليًا، يعيد التذكير بحقبات سابقة، جرى خلالها تحقيق الاستقرار النقدي، على حساب أولويّات أخرى.

أسباب الطلب على الليرة
في الجانب الآخر من معادلة العرض والطلب، أي على مستوى الطلب على الليرة اللبنانيّة،  نتحدّث هنا عن المصارف التي تقدّم هذه الفوائد المرتفعة، لاجتذاب الودائع بالليرة.

ومن المعلوم أنّ المصارف لا تستخدم هذه الليرات للتسليف التجاري أو الشخصي، بل إنّ أحدًا ما في السوق لن يقترض السيولة من المصارف مقابل هذا النوع من الفوائد. كما من المستبعد أن تقوم المصارف بتوظيف هذه الليرات في شهادات إيداع مصرف لبنان التقليديّة، والتي تقدّم حاليًا نسب منخفضة جدًا من الفوائد، ما يجعل المصارف في موقع الخاسر بقوّة من هذه العمليّة.

في الوقت الراهن، تستخدم المصارف الليرات التي تمتصّها من السوق بعمليّات تسديد الودائع المدولرة القديمة، بالليرة اللبنانيّة، وبسعر صرف يوازي 15 ألف ليرة للدولار (وبشكل طوعي للمودعين). بهذا الشكل، تسدد المصارف الودائع المدولرة القيمة بنحو 16.8% من قيمتها الفعليّة، وتمنح في المقابل فوائد مرتفعة لقاء تحصيل هذه الليرات من السوق، عبر الودائع “الجديدة”. وفي النتيجة، لن تُسجّل المصارف خسائر بفعل هذه العمليّات، بل ربحًا صافيًا نتيجة شطب نسبة من قيمة الودائع التي يجري تسديدها بقيمة منخفضة جدًا.
كيف ستسدّد المصارف الفوائد المرتفعة لاحقًا؟

المسألة بسيطة. فمقابل الودائع المدولرة التي يجري تسديدها بالليرة اللبنانيّة حاليًا، من الأموال “الجديدة”، تمتلك المصارف شهادات إيداع مدولرة أو بالليرة لدى مصرف لبنان. والمصرف المركزي قادر على تسديد هذه القيمة بالليرة اللبنانيّة للمصارف في مطلق الحالات، وبمعزل عن أزمته التي تتركّز في نقص السيولة بالدولار الأميركي. وفي النتيجة أيضًا، سيكون النظام المالي قد قلّص الفجوة ما بين الإلتزامات للمودعين بالعملات الأجنبيّة، ما تبقى من عملات أجنبيّة بحوزة مصرف لبنان.

دلالات ومخاطر العمليّة
في ما تعرضه المصارف اليوم، ليس هناك “بونزي” جديد. فالمصرف المركزي يملك قوّة خلق النقد بالليرة، ولن يكون متعذّرًا تسديد هذه الودائع “الجديدة” بالليرة في أي حال من الأحوال. والمصارف تملك حقوقًا، هي شهادات إيداعها في المركزي. وسيكون بإمكان المصارف تغطية الفوائد للمودع “الجديد”، من حقوقها لدى مصرف لبنان. والفوائد الخياليّة التي تعرضها المصارف اليوم، تقل عن ربحها المحقق من تسديد الودائع المدولرة حاليًا باقتطاعات كبيرة من قيمتها. من ناحية مخاطر الإئتمان، العمليّة تبدو سليمة للغاية.

لكن ما سبق لا يعني عدم وجود مخاطر تحيط بهذه العمليّات، والتي يفترض الانتباه إليها. وضع الأموال في ودائع جديدة بالليرة اللبنانيّة، وتجميدها لفترات تقارب السنة، يعني تحميل “المودع الجديد” مخاطر سعر الصرف. باختصار، سيخسر “المودع الجديد” من قيمة وديعته، إذا انخفض سعر صرف الليرة اللبنانيّة بحلول فترة استحقاق وديعته. وطرح ودائع من هذا النوع، سيعني ضخ كميات من الليرة في المستقبل، لتسديد الفوائد المرتفعة، وهو ما يطرح أسئلة حول استدامة السياسة النقديّة الحاليّة.

أخيرًا، أهم ما يفترض الانتباه له هنا، هو أنّ الخاسر الأكبر في هذه العمليّة هو صاحب “الوديعة القديمة”، التي يضطر اليوم لاستيفاء قيمة وديعته بالليرة، وبسعر صرف يوازي 15 ألف ليرة للدولار. هذه الخسارة، تأتي اليوم كنتيجة لتأخر استحقاق إعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي كان من المفترض أن يعيد توزيع الخسائر بشكل واضح وعادل، بدل أن تترك العمليّة لعروضات المصارف وهندساتها المستجدّة.

أمّا أسباب شح الليرة واستماتة المصارف للحصول عليها، فلا تعبّر عن عودة الثقة بالمصارف أو العملة المحليّة. بل تعبّر عن تشوّه كبير في إدارة الأزمة المصرفيّة والسياسة النقديّة. وهذا أهم ما في الأمر.

علي نور الدين