بدأ مجلس الاحتياطي الفيدرالي مراجعة شاملة حول “استراتيجية السياسة النقدية وأدواتها وآليات التواصل”، حيث أبرز قرار خفض أسعار الفائدة الأخير ورد فعل المستثمرين الحاجة الماسة لمثل هذه المراجعة.
لنتأمل كيفية تطور إعلان السياسة النقدية الأخير، حيث تضمن إعلان السياسة الأخير للفيدرالي ثلاثة محاور رئيسية. أولاً، خفض الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس ليصل إلى نطاق يتراوح بين 4.25% و4.5%. ثانياً، أشار إلى أن التقدم في كبح التضخم يسير بوتيرة أبطأ مما كان متوقعاً. ثالثاً، تقليص التوقعات بشأن خفض أسعار الفائدة العام المقبل مقارنة بالتقديرات السابقة.
اعتبر المستثمرون هذا المزيج تحولاً “متشدداً”، إذ رأوا أنه اتجاه لتشديد السياسة النقدية رغم خفض الفائدة، مما دفعهم إلى بيع الأسهم.
ضعف في التواصل مع الأسواق
يبدو أن هناك فشلاً في التواصل. فبقدر إعجابي برئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول وزملائه، حيث يسير “الهبوط السلس” الذي يسعون لتحقيقه بشكل جيد، إلا أن الطريقة التي يتبعها البنك المركزي في الإشارة إلى التغييرات في السياسات النقدية وتنفيذها تزيد من تعقيد مهمة، هي صعبة بالفعل.
قبل اجتماع السياسة النقدية الأخير، توقعت الأسواق المالية خفضاً بمقدار ربع نقطة مئوية في سعر الفائدة، مدفوعة بالرسائل السابقة للاحتياطي الفيدرالي التي شجعت هذه التوقعات. نتيجة لذلك، لم يمنح المستثمرون اهتماماً كافياً للبيانات الحديثة التي أشارت إلى تباطؤ التقدم في السيطرة على التضخم مقارنة بالتوقعات السابقة.
وفي ختام العام، أظهر الملخص الجديد للتوقعات الاقتصادية للفيدرالي تضخم مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي (المقياس المفضل للبنك المركزي) عند 2.8%، مقارنة بـ2.6% في التقديرات السابقة. كما أشار إلى انخفاض معدلات البطالة إلى 4.2% مقارنة بـ4.4% سابقاً، مع تحسن النمو الاقتصادي إلى 2.5% بدلاً من 2.0%.
معضلة قاعدة “تايلور”
وكما أشارت زميلتي في “بلومبرغ إيكونوميكس” آنا وونغ قبل إعلان السياسة النقدية الأخير: “في ضوء هذه التعديلات المتوقعة، توصي قاعدة “تايلور” المعدلة بالإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير خلال اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة في ديسمبر بدلاً من خفضها. أحد الأسباب التي قد تدفع الاحتياطي الفيدرالي للتصرف هو أن الأسواق كانت قد سعرت الخفض مسبقاً، وبالتالي فإن التوقف عن خفضها كان يعني فعلياً رفعها”.
بالنسبة لغير المطلعين، فإن قاعدة “تايلور” المعدلة هي صيغة تُستخدم لتحديد معدل السياسة النقدية استناداً إلى تغير البيانات المتعلقة بالتضخم والناتج الاقتصادي، وتحديداً الفجوات بين التضخم الفعلي والمستهدف، والناتج المحلي الإجمالي الفعلي والمحتمل. (تشمل النسخة “المعدلة” من القاعدة عنصراً يضبط معدل السياسة تدريجياً بدلاً من إجراء تغيير شامل دفعة واحدة).
لطالما انقسم الاقتصاديون حول إيجابيات وسلبيات الاعتماد على مثل هذه القاعدة لضبط السياسة النقدية تلقائياً، لكن معظمهم يعتقدون أنها يجب أن تكون جزءاً أساسياً من النقاش حول كيفية تحديد أسعار الفائدة.
غموض حول سياسة الفائدة والمعدل المحايد
قبل الاجتماع، تغيرت البيانات بطريقة جعلتنا نقول “توقف”. في المؤتمر الصحفي الذي أعقب الإعلان، سُئل باول عن سبب مضي الاحتياطي الفيدرالي قدماً في خفض أسعار الفائدة على أي حال، إلا أن إجاباته لم تقدم توضيحات كافية. وقد قال الفيدرالي إنه يسعى لتقريب سعر الفائدة من ما يسمى بالمعدل المحايد الذي لا يقيد الطلب ولا يحفزه. لكن هذه الإجابة أثارت تساؤلات إضافية، منها: إذا كان التضخم قد يستقر فوق الهدف البالغ 2%، فلماذا يُعتقد أن معدل السياسة النقدية كان مقيداً بشكل مفرط؟ وعند سؤاله عن تقديره الحالي للمعدل المحايد، اكتفى باول بالضحك قائلاً، في الحقيقة لا أحد يعرف ذلك على وجه اليقين.
يفترض الاحتياطي الفيدرالي أن التضخم والتوظيف سيعودان إلى المسار المستهدف في المستقبل. لكن لماذا لا ينتظر الفيدرالي تحقق ذلك فعلياً؟ وفقاً للملخص الجديد للتوقعات، الذي يعكس خفض الفائدة الأخير والتخفيضات الأقل المتوقعة في العام المقبل. من المتوقع أن يصل التضخم الأساسي لمؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي إلى 2.5% بعد عام من الآن، مقارنة بـ2.2% في التوقعات السابقة، وإلى 2.2% بعد عامين، بدلاً من 2%.
تشابك توقعات السوق والسياسات
تبدو قراءة زميلتي لحسابات الاحتياطي الفيدرالي دقيقة تماماً: فبالنظر إلى توقعات الأسواق، لو أن الفيدرالي أبقى أسعار الفائدة دون تغيير، لكانت النتيجة بمثابة تشديد فعلي للسياسة النقدية. وعلى الرغم من أن الفيدرالي ربما كان يفضل التوقف، فإنه يرى أن التشديد في الوقت الحالي ليس القرار الأنسب.
يا لها من معضلة، فالمسألة تكمن في أنه لو لم يقم المستثمرون بتسعير خفض الفائدة مسبقاً، لكان من المحتمل أن يبقي الفيدرالي على أسعار الفائدة دون تغيير، مما كان سيجعل قراره أكثر انسجاماً مع البيانات الحديثة. لكن، لماذا أقدم المستثمرون على تسعير الخفض بشكل لا يتماشى مع البيانات الأحدث؟ يعود السبب جزئياً إلى أنهم منحوا اهتماماً كبيراً للملخص السابق لتوقعات الفيدرالي، الذي أشار إلى إمكانية تخفيض إضافي لأسعار الفائدة مع نهاية العام.
هذا التشابك يزداد تعقيداً مع التوقعات الجديدة، حيث يتوقع المستثمرون الآن أن تصل أسعار الفائدة إلى 3.9% بحلول نهاية 2025، مقارنة بـ3.4% في التوقعات السابقة. هذا التحول “المتشدد” أربك المستثمرين رغم محاولة الفيدرالي تجنب المفاجآت. الأهم من ذلك، ومع ظهور معلومات جديدة، قد تتعارض التوقعات الأخيرة في المستقبل مع توصيات مثل قاعدة تايلور، مما قد يدفع الفيدرالي لاتخاذ خطوات تتناقض مع الإشارات التي تقدمها البيانات ، سواء بخفض الفائدة بوتيرة أسرع أو رفعها مجدداً وفقاً للظروف.
التركيز على البيانات الحديثة
لا شك أن توافق توقعات المستثمرين مع نوايا الفيدرالي أمر جيد، لكن هذا لا يكفي، إذ يتعين على الأسواق والبنك المركزي على حد سواء التركيز على البيانات الاقتصادية الجديدة وما تعنيه بالنسبة للسياسة النقدية، بدلاً من الاعتماد على توقعات الفيدرالي السابقة التي تستند إلى معلومات عفا عليها الزمن الآن.
إصلاح ملخص التوقعات الاقتصادية يمكن أن يكون خطوة مهمة في هذا الاتجاه، بما في ذلك إلغاء “مخطط النقاط” الخاص بأسعار الفائدة المستقبلية، والذي غالباً ما يُساء فهمه. يضطر الفيدرالي للتوضيح مراراً وتكراراً أن هذا المخطط ليس خطة أو وعداً، بل مجرد توقعات. هو في الواقع ليس توقعاً بالمعنى المعتاد، لأنه لا يعكس إجماعاً، بل يعرض ما يعتقد المسؤولون الأفراد أنه قد يكون “مناسباً” بناءً على آرائهم المختلفة، وربما المتناقضة، حول ما سيحدث.
مرونة السياسات ونهج البيانات
الالتزام الصارم بقاعدة سياسة معينة، حتى لو كانت مصممة بعناية، ليس دائماً الخيار الأمثل لمواءمة التوقعات مع البيانات الجديدة، لأن التعقيدات والاستثناءات تنشأ بشكل متكرر. ومع ذلك، يمكن للاحتياطي الفيدرالي أن يركز رسائله على أدوات مثل قاعدة تايلور التي تستند إلى فجوات التضخم والناتج، أو على مسار الطلب الكلي كما يُقاس بالناتج المحلي الإجمالي الاسمي. الطريقة الأخيرة تربط فعلياً بين فجوات التضخم والناتج، مما يؤكد أن سعر الفائدة يؤثر على الطلب الكلي بشكل عام بدلاً من دفع التضخم والناتج الحقيقي بشكل منفصل. هناك الكثير مما يمكن قوله عن هذه الطريقة، وسأعود إلى هذا الموضوع لاحقاً.
الأهم من ذلك هو التركيز بشكل أكبر على البيانات الواردة بدلاً من التمسك بخطط ووعود قديمة حول مسار أسعار الفائدة، والتي لا تمثل في الواقع خططاً أو وعوداً أو حتى توقعات إجماعية دقيقة. إذا قادت مراجعة السياسة النقدية الفيدرالي للوضع خطوة أو خطوتين في هذا الاتجاه، خاصة فيما يتعلق بالتخلي عن مخطط النقاط، فسيكون ذلك خطوة مهمة نحو تحقيق هدف مفيد.