إلى الثّنائيّ عون-سلام: الإصلاح يبدأ من الموازنة العامّة

الفرحة والارتياح الإقليميّان والدوليّان اللذان رافقا انتخاب الجنرال جوزف عون رئيساً للجمهورية وتكليف القاضي الدكتور نوّاف سلام لتشكيل حكومة وإعلانها أول من أمس، هما بمنزلة فرصة ذهبية يجب على لبنان استثمارها لأقصى الحدود. على الصعيد الماليّ، وقبل أن تأخذ الإصلاحات مسارها نحو التنفيذ، سيكون إقرار موازنة متوازنة لعام 2025 خطوة أساسية وممرّاً إلزاميّاً لأيّ نوع من الانفراج، أو يكون الإحباط بحجم الفرحة!

المطلوب الآن هو إعادة مشروع الموازنة العامّة لعام 2025 إلى الحكومة لمراجعتها وإجراء التعديلات اللازمة لتتناسب مع الواقع الجديد. هذه الموازنة، وفي هذه الظروف بالتحديد، يجب أن لا تكون أداة ماليّة وحسب، بل يجب أن تكون رؤية استراتيجيّة لإعادة بناء لبنان اقتصادياً واجتماعياً، وتعزيز الثقة داخلياً وخارجياً.

لتطبيق هذه الرؤية، تحتاج الحكومة إلى إرادة سياسية قويّة، وتعاون فعّال مع القطاع الخاصّ، والمغتربين، والمجتمع الدولي. ويتطلّب الأمر دعماً من المؤسّسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لتوفير التمويل اللازم ومواكبة تنفيذ الإصلاحات. موازنة 2025 هي نقطة تحوُّل تُبرز قدرة لبنان على مواجهة أزماته من خلال سياسات شفّافة وعادلة. نجاحها لا يُقاس فقط بالأرقام، بل بقدرتها على تحقيق تغييرات جوهرية تُعيد التوازن والاستقرار الاقتصاديَّين والاجتماعيَّين، وتمنع المزيد من الانهيارات المستقبلية.

خارطة طريق استراتيجيّة

في ظلّ التحوّلات الجذرية التي يشهدها لبنان، بما في ذلك تداعيات الحرب الأخيرة مع إسرائيل ووضع لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF)، يتّضح أنّ مشروع موازنة 2025 الحالي لا يعكس الواقع الجديد، ولا يُقدّم حلولاً كافية لمعالجة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة. استمرار غياب الإصلاحات الجذرية والاعتماد على سياسات غير مستدامة، مثل الاقتراض والدولرة، يُبقيان لبنان في دوّامة أزمات متكرّرة تُفاقم الفقر، البطالة، والتوتّرات الاجتماعية.

لتكون موازنة 2025 نقطة تحوُّل حقيقية، يجب أن تستند إلى خريطة طريق استراتيجيّة تتناول القضايا الأساسية والقابلة للتحقُّق في وقت قصير وسريع. وها هي الركائز الست لتصويب الأداء تمهيداً للإصلاح وإعادة هيكلة القطاع العامّ:

1- تفعيل العمل بالنّظام الضّريبيّ

– إلغاء الامتيازات الضريبية غير العادلة، وتوسيع القاعدة الضريبية بشكل متوازن.

– مكافحة التهرّب الضريبي وتجريمه عملاً بالقانون 44/2015، وتعزيز الشفافية والرقابة على الأنشطة الماليّة والتجارية.

– تفعيل العمل باتفاقية تبادل المعلومات التلقائيّ من أجل محاربة التهرّب الضريبي وتفعيل التحصيل الضريبي المعروفة بالـCommon Reporting Standard CRS.

– اعتماد تعديلات تخفّف الأعباء عن الفئات الضعيفة وتعزّز العدالة الاجتماعية.

– تقديم تحفيزات وإغراءات لتوفير وتسهيل عودة جميع المؤسّسات التجارية في الداخل اللبناني إلى الاقتصاد الرسمي بعدما هجرته بسبب فقدان الثقة بالمنظومة الماليّة والقطاع المصرفي.

2- تعزيز الشّراكة بين القطاعين الخاصّ والعامّ

– إشراك القطاع الخاصّ في تحفيز الاقتصاد عبر مشاريع تنموية تعزّز التعافي الاقتصادي وتخلق فرص عمل.

– تشجيع المغتربين اللبنانيين على ضخّ استثمارات جديدة في القطاعات الحيوية، مثل الزراعة والطاقة والبنية التحتية، وإبعادها عن دعم الاقتصاد الريعي كما كان الحال في السابق وكانت نتائجه وخيمة.

3- ضبط الإنفاق الحكوميّ وتصويب الأداء

– خفض النفقات غير الضرورية وتحسين كفاءة الخدمات العامّة.

– تصويب أداء القطاع العامّ للحدّ من الهدر والفساد وزيادة الإنتاجيّة.

– توجيه الموارد نحو القطاعات الأساسيّة مثل الصحّة والتعليم لتحسين مستوى المعيشة، وإعادة لبنان إلى مجده.

4- إدارة الدّين العامّ بفعّاليّة

– إعادة هيكلة الدين العام بطريقة تراعي الالتزامات المالية، وتعيد لبنان إلى الأسواق المالية العالمية، وتدعم النموّ الاقتصادي.

– التفاوض مع حاملي سندات الدين السيادية الدولاريّة Eurobonds، الذين هم في معظمهم غير الدائنين الأصليّين، للحصول على شروط سداد مرنة تقلّل العبء المالي على الموازنة، والظرف جدّ مناسب حاليّاً.

– دراسة إمكان التفاوض مع مجموعة دول بريكس (BRICS) للحصول على برنامج تمويل مرن يتناغم مع قدرة لبنان المالية، وباتباع نهج الشفافية والموضوعية قد يكون ذلك داعماً لبرنامج تمويل من صندوق النقد الدولي.

5- تحفيز التّعافي والنّموّ الاقتصاديّ

– الاستثمار في القطاعات الإنتاجية الوطنية مثل الصناعة والزراعة والطاقة المتجدّدة، لتقليل التضخّم المستورد وتحقيق استقرار اقتصادي.

– إطلاق مشاريع طويلة الأمد تُعزّز الإنتاج المحلّي وتُوفّر فرص عمل مستدامة.

6- تعزيز الشّفافيّة والمساءلة

– تطبيق آليّات مكافحة الفساد المتوافرة حاليّاً، وضمان الشفافيّة في إدارة المرافق العامّة والمال العامّ.

– تنفيذ خريطة الطريق المتعلّقة بمجموعة العمل المالي FATF لتجنّب المزيد من العزلة الاقتصادية. إخراج لبنان من اللائحة الرمادية يؤسّس لتمكين القطاع المصرفي  من استقبال المساعدات المرتقبة لدعم ومساعدة لبنان في إعادة إعمار ما دمّرته إسرائيل.

لإعادة الموازنة إلى الحكومة

المطلوب الآن هو ما أعلنه رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان من ضرورة إعادة مشروع الموازنة إلى الحكومة لمراجعته وإجراء تعديلات تعكس التحوّلات الأخيرة. عدم مناقشة تفاصيل الموازنة كان ضروريّاً لتفادي إعطاء أرقامها وموادّها أيّ مشروعية. حقّاً فعل.

ليست الموازنة مستنداً وأرقاماً أو خطّة ماليّة سنوية وحسب، بل يجب أن تكون أداة استراتيجية لإعادة بناء الاقتصاد وتعزيز الثقة المحلّية والدولية، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار الأزمات التي يتخبّط بها لبنان منذ أكثر من أربع سنوات. وكما حطّ مشروع الموازنة على طاولة لجنة المال والموازنة عن طريق الأمانة العامّة لمجلس النواب، فكذلك ستكون هي السلطة صاحبة الاختصاص التي تتحمّل مسؤولية إعادة مشروع الموازنة العامّة لعام 2025 إلى مجلس الوزراء ووزارة المالية لإجراء اللازم.

يتطلّب نجاح هذه الرؤية إرادة سياسية قويّة وتعاوناً فعّالاً بين الحكومة والقطاع الخاصّ والمجتمع الدولي. المؤسّسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، عليها توفير الدعم الماليّ والخبرة الفنّية، فيما يلعب القطاع الخاصّ دوراً محوريّاً في بناء اقتصاد جديد أكثر استدامة.

يجب أن تعكس موازنة 2025 رؤية استراتيجية تعالج جذور الأزمة وتُعيد بناء الثقة بالاقتصاد اللبناني. نجاحها لا يُقاس بالأرقام فقط، بل بقدرتها على إنقاذ لبنان، وطناً ومواطناً، وتحقيق تغييرات جوهرية تُعزّز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وتُجنّب البلاد المزيد من الانهيارات في المستقبل. من خلال إصلاحات جذرية وشراكات فعّالة، يمكن للبنان أن يضع أُسساً متينة لاستقرار اقتصادي واجتماعي مستدام. آن الأوان لكي يصبح لبنان على وطن.

محمد فحيلي