مع دخول لبنان مرحلة سياسية جديدة، تمثلت بانتخاب رئيس للجمهورية جوزيف عون وتشكيل حكومة نواف سلامة، تتجه الأنظار إلى ما ستحمله المرحلة من طروحات تقدمها الحكومة الحالية للبحث في سبل إعادة الانتظام المالي في لبنان وما يتخلل ذلك من خطة اقتصادية، يفاوض من جديد على أساسها لبنان صندوق النقد الدولي للحصول منه على برنامج تمويل، على أن يتخلل الخطة قانون لإعادة هيكلة القطاع المصرفي في لبنان وإعادة أموال المودعين.
الودائع من 178 مليارًا في الـ 2018 إلى 86 مليار دولار أول العام 2025
ومع كل مرحلة في لبنان تتقدم الخطابات والشعرات الشعبوية عن سواها، خاصة في أكثر النقاط حساسية ومفصلية، ألا وهي أموال المودعين، فكل الوعود السابقة من حماية أموال المودعين وقدسية الودائع لم تترجمها السلطة التشريعية والتنفيذية، إلا ذوبانًا للودائع من 178.6 مليار دولار في العام 2018، إلى 86 مليار دولار مطلع العام الحالي. وطبعًا ذوبان الودائع أتى بسبب الانخفاض الحاد لليرة مقابل سعر صرف الدولار، فعلى سبيل المثال كتلة الودائع بالليرة اللبنانية انخفضت من 40 مليار دولار إلى حدود 500 مليون دولار نتيجة ذوبان سعر الصرف.
فيما سدد جزء من الودائع بالليرة اللبنانية بقيمة تقل بنسبة 86% عن سعر السوق الموازية، ما دفع حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري ونوابه إلى إلغاء السحوبات بالليرة اللبنانية وحصر التعاميم بالسحوبات بالدولار الأميركي فور توليه مهام الحاكمية صيف العام 2023، فعمل على توسيع شريحة المستفيدين ورفع سقف السحوبات للتراوح حاليًّا بين 250 دولار و500 دولار شهريًّا بعدد مودعين وصل إلى 431448 مودع. واليوم، ومع غياب الحلول العملية والجدية من السلطات التشريعية والتنفيذية لحل جذري لأموال المودعين. عاد الحديث عن الذهب الذي يملكه لبنان لبيعه ورد أموال المودعين.
كيف كنَزَ لبنان ملاذه الآمن؟
سلك لبنان طريقه لتجميع الذهب بدءًا من العام 1948، ولغاية فك ارتباط الليرة اللبنانية بالفرنك الفرنسي بعد نيله الاستقلال عن الفرنسيين في العام 1943 حيث اشترى نحو 1.5 طن من المعدن الأصفر، ليخزنها ويعزز قيمة العملة الوطنية التي ارتبطت بالذهب إضافة للدولار بصفته عملة عالمية. كما أن لبنان ضمن في العام 1949 بنودًا في قانون النقد والتسليف تلزم تكوين احتياطات بالذهب والعملة الصعبة. ومن هنا كانت الانطلاقة واستمرت الحكومات بمراكمة الذهب حتى العام 1971 وقد وصلت الكمية إلى 286.5 طن.
ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975 وفي تدبير وقائي أولي لحماية الذهب من أي عمليات سرقة او استيلاء من قبل الميليشيات المتنازعة يومها، أودع لبنان ثلث ذهبه في الفيديرالي الأميركي، ثم أصدر في العام 1986 قانونًا حمل الرقم 42 وهو قانون يمنع التصرف بالذهب من خلال فرض قيود تشريعية لمنع نقل ملكية الذهب إلا باصدار قانون خاص يجيز ذلك.
من يصوب على ذهب لبنان؟
إذن فالذهب بالنسبة للبنان هو مخزون إستراتيجي تمكنت الحكومات المتعاقبة من شرائه من أموال المواطنين، وسعت لحمايته في أحلك الظروف الأمنية. واليوم علت بعض الأصوات في لبنان لتصوب على الذهب، بوصفه الحل الأساسي لإعادة أموال المودعين على اعتبار أن المصرف المركزي يملك ما يقارب 37 مليار دولار بين احتياطي ذهب وتوظيفات قابلة للاستعمال تمكن الحاكم بالإنابة وسيم منصوري ونوابه من تعزيزها على مدى عام لتصل لما فوق الـ 10.5 مليار دولار.
ومع احقية عودة أموال المودعين وأهميتها، إلا أن هذه الدعوات تتجاوز الطرائق الصحيحة للإصلاح المالي في لبنان، وكيفية التوزيع العادل للمسؤوليات بين الدولة والمصرف المركزي والمصارف وحتى كبار المودعين. فماذا عن إقرار قانون لإعادة هيكلة القطاع المصرفي؟ ماذا عن التدقيق في ميزانية أكبر 14 مصرفًا في لبنان، ماذا عن تشريح الودائع المشروعة معلومة المصدر والودائع غير المشروعة، ماذا عمّن راكم أمواله بالمصارف مستفيدًا من الفوائد الخيالية التي سوقتها المصارف لتسويق الهندسات المالية.
تعتبر المصادر أن الحكومات المتعاقبة انفقت 24.5 مليار دولار بين تشرين الأول / أكتوبر 2019 حتى شهر أغسطس من العام 2023، حيث كانت أموال مصرف لبنان القابلة للاستعمال آنذاك تصل إلى 33 مليار دولار، مليارات أنفقت وبددت دون أي إصلاح اقتصادي او مالي، ما يعني انه لا يجوز المس بالذهب لأهميته الإستراتيجية، ولأنه ثروة الأجيال السابقة والحالية والقادمة. بل يعتبر الذهب مهمًّا لضمان وجود الملاءة في ميزانية المصرف المركزي وهي نقطة قوة وثقة ينطلق منها المصرف المركزي بتعاملاته مع المصارف المراسلة، التي وفقًا لمعايير الربح والخسارة، التي تحكم علاقاتها مع المصارف في سائر الدول، وافقت على منح المصرف المركزي في لبنان تسهيلات عدة رغم الفجوة المالية التي تعاني منها ميزانية المصرف بسبب مخزون الذهب الإستراتيجي.
هذه الأصوات التي تعلو بين الحين والآخر لو أُصغي لها قبل خمس سنوات وسُيِّل ذهب لبنان كانت أهدرت 15 مليار دولار التي كانت تعادل قيمة الذهب آنذاك.
لذلك وبعيدًا عن الشعبوية، الخطة المالية يجب ألّا تُبنى بالشعارات والشعبويات، فحتى المؤسسات المالية الدولية تعتبر أنه وفي حال سُيِّل جزء من الذهب فيجب أن يكون لإعادة أموال حملة سندات اليورو بوندز، إذ إن دينهم بنظر هذه المؤسسات هو بمثابة دين ممتاز.