مستقبل الذهب… القرار الصعب

تختلف السياسات التي تتّبعها المصارف المركزية حول العالم في التعاطي مع احتياطي الذهب لديها، سواء في ما خصّ نسبة المعدن الأصفر من مجموع الاحتياطي العام، أو بالنسبة إلى طريقة إدارة محفظة الذهب. لكن، ومن خلال مراجعة القسم الأكبر من هذه السياسات، لم يتضح وجود ولو نموذج واحد، على غرار النموذج اللبناني الذي يبدو اليوم، فريداً من نوعه في العالم. ومع ذلك، ما فعله مجلس النواب اللبناني منذ حوالى أربعين سنة، بإصداره القانون 42 والذي يمنع بموجبه مصرف لبنان، أو أية جهة أخرى، من بيع، أو التصرّف باحتياطي الذهب، كان في محله. ذلك أن الطريقة التي تمّ التعاطي فيها بالاحتياطي النقدي في البنك المركزي، وبضغوطات سياسية واضحة، تسمح بالاعتقاد أن الذهب كان سيتبخّر كما تبخّرت الاحتياطيات النقدية.

ومع ذلك، لا يمكن الاستمرار في السياسة نفسها، التي إن دلّت على شيء، إنما تدلّ على أن الدولة لا تثق بنفسها، ولا بمصرفها المركزي، ولا بحكّامها. والخطير في هذا الموضوع، أن اللبناني تأقلم مع فكرة أن “الدولة” سارقة وغبية ولا تؤتمن على أي شيء، وأنه بمجرد أن يتم إلغاء مفاعيل القانون 42 سوف يتبخّر الذهب ويُسرق من قبل حرامية الدولة. هذه القناعة، تحولت إلى عقدة نفسية بتنا نعاني منها جميعاً، بحيث أن كل من يحاول الإشارة إلى الإفادة من احتياطي الذهب نتهمه فوراً بأنه ينوي سرقة الذهب! بل إن الذهب تحوّل في أعماقنا إلى ما يشبه العبادة الوطنية، ولم تعد النظرة الشعبية إليه على أساس أنه احتياطي مالي، مثله مثل الاحتياطي النقدي، بل أصبح شبيهاً بالأرزة ورمزيتها، ممنوع المسّ به أو الحديث عنه.

هذا الواقع يجب أن يتغيّر، من دون أن يعني ذلك أننا من دعاة التفريط بهذه الثروة. لكن، وعندما تعود ثقتنا بالدولة وبالمصرف المركزي وبأنفسنا إلى المستويات الطبيعية المتعارف عليها في كل الدول، يجب أن نحطّم هذا المحرّم (taboo) وأن نعود إلى فكرة أن الذهب مثله مثل الاحتياطي النقدي الموجود حالياً في البنك المركزي (حوالى 10 مليارت دولار)، لا أكثر ولا أقل. وينبغي أن نسمح باستغلال هذه الثروة إما لتكبيرها من خلال إدارة سليمة للمعدن الأصفر في حال قرر المركزي عدم تسييل الذهب أو قسم منه. وإمّا لتحسين الاحتياطي النقدي، لاستخدامه في تكبير حجم الاقتصاد، عندما نباشر في تنفيذ خطة التعافي الموعودة.

طبعاً، من حق الناس، ومن واجب الدولة مواصلة الرقابة على المركزي، وهذا الأمر وارد في كل دول العالم، لكن ليس على الطريقة اللبنانية. في سويسرا مثلاً، حصل استفتاء في العام 2014 تمحور حول سؤالين: الموافقة أو رفض زيادة احتياطي الذهب في محفظة البنك المركزي إلى 20%. والسؤال الثاني حول منع بيع الذهب والتصرّف بإدارته بحرية من قبل المركزي. وجاء الجواب الشعبي كالآتي: الموافقة على رفع نسبة الاحتياطي إلى 20%، ورفض اقتراح منع البيع.

إذا أجرينا استفتاء في لبنان، حول السماح بالتصرّف بالذهب، من المرجّح أن تأتي النتيجة بأغلبية مطلقة مؤيدة منع التصرّف بالذهب، وهذا نابع من غياب الثقة، ومن عقدة “عبودية” للذهب أصابتنا جميعاً بسبب تجاربنا مع الدولة. وقد حان الوقت لتغيير ذلك، وهذا التغيير مسؤولة عنه الدولة نفسها، لكي تُخرجنا من عقدة الثقة، وبالتالي من عقدة الذهب والقانون 42.

انطوان فرح