هناك مقولة قديمة في “وول ستريت”، وهي أن “سوق الأسهم ليست الاقتصاد”. وعادةً ما يكون هذا صحيحاً، لكن خلال الدورة الاقتصادية الحالية، تتزايد أهمية مكاسب سوق الأسهم باعتبارها قوة دافعة للإنفاق الاستهلاكي، ما ساعد في تحفيز النمو مع تباطؤ قطاعات أخرى من الاقتصاد.
كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الشهر الماضي أن أصحاب الدخول المرتفعة في الولايات المتحدة رفعوا إنفاقهم 12% خلال العام المنتهي في سبتمبر 2024، بينما خفضه أصحاب الدخول المنخفضة. لا يمكن تفسير هذا التباين بنمو الأجور، الذي تباطأ بنفس المعدل تقريباً لكل فئات الدخل خلال الفترة. بدلاً من ذلك، فأفضل تفسير له هو ارتفاع ثروة العاملين والمتقاعدين من ذوي محافظ الاستثمار الكبيرة في سوق الأسهم.
استثمارات الأسر في أميركا
ارتفعت قيمة الأسهم وحصص صناديق الاستثمار المشترك في ميزانيات الأسر الأميركية 10 تريليونات دولار، أي 28.8%، إلى 46.6 تريليون دولار خلال الاثني عشر شهراً المنتهية في سبتمبر 2024، متجاوزاً الحد الكافي لتعويض تأثير التضخم وأي تراجع في الأجور.
فضلاً عن ذلك، تتركز ملكية الأصول المالية في الولايات المتحدة بشكل كبير بين الأغنياء، إذ يملك أغنى 10% من الأسر حوالي 87% من هذه الأسهم وحصص صناديق الاستثمار المشترك.
يساعد التركيز على سوق الأسهم باعتبارها قوة دافعة للاقتصاد في حل لغز استمرار قوة الإنفاق الاستهلاكي رغم تباطؤ سوق العمل خلال العام الماضي واستقرارها في حالة “انخفاض التوظيف والتسريح”. كما يفسر ذلك استياء الكثير من وضع الاقتصاد رغم النمو القوي للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، وانخفاض البطالة.
ربما كانت المرة السابقة التي اعتمد فيها الاقتصاد بشكل كبير على ارتفاع أسعار الأصول هي فورة سوق الإسكان خلال منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، والتي استفادت منها مجموعة كبيرة من الأسر، وحفزت الإنفاق الاستهلاكي إلى أن انقلبت الأوضاع. ورغم أن ارتفاع أسعار الأسهم يفيد قلة من الأميركيين فقط، إلا أن حدوث موجة بيع لا يشكل خطراً كبيراً على النظام المالي، مقارنة بما حدث قبل جيل مع انفجار فقاعة الإسكان والتوسع المعتمد على الائتمان.
مكاسب الأسهم مضمونة
كذلك، فإن استمرار ارتفاع أسعار المنازل لسنوات يعني أن الأسر راكمت مستويات مرتفعة من حقوق الملكية العقارية، غير أن أسعار الفائدة المرتفعة تعيق تحقيق هذه المكاسب في ظل ارتفاع تكاليف القروض العقارية، وأدى عدم القدرة على تحمل هذه التكاليف إلى توقف مبيعات المنازل. أما الثروات التي تُجمع من الأسهم، فهي تُتاح بضغطة زر، وربما يبدو تحقيقها مضموناً.
نما الناتج المحلي الإجمالي 2.8% خلال 2024 بعد تعديله وفق التضخم، وشكّل الإنفاق الاستهلاكي ثلثي هذا النمو، أي 1.9 نقطة مئوية. وكان الأثرياء مسؤولين عن حوالي نصف الإنفاق الإجمالي، بحسب ما كشفته “وول ستريت جورنال” نقلاً عن تحليل أجرته شركة “موديز أناليتكس” (Moody’s Analytics). ويساعد ذلك في تفسير اتجاه الشركات، بما يشمل الخطوط الجوية ومشغلي المدن الترفيهية، إلى جعل منتجاتها أكثر فخامة.
هذا النمو المعتمد على أصحاب الدخول المرتفعة يثير تساؤلات عما سيحدث للاقتصاد إذا تعرضت سوق الأسهم لأزمة، وما مدى الاختلاف بين تأثير صدمة الثروة الناتجة عن الأسهم وتلك الناجمة عن الأزمة العقارية في أواخر العقد الأول من الألفية؟ فمع انفجار فقاعة المساكن، فقد ملايين العاملين في قطاع البناء وظائفهم، وتبخرت ثروات مالكي المنازل من الطبقة الوسطى، وتراجع الإنفاق الاستهلاكي.
كما وجدت البنوك نفسها مثقلة بالديون وتحتاج إلى إنقاذ مالي، وقد استغرق إصلاح الضرر الذي لحق بميزانيات الأسر والبنوك سنوات.
سيناريو تراجع الأسهم
من شأن انخفاض سوق الأسهم بنسبة 20% أو أكثر -ربما نتيجة تحول في معنويات المستثمرين تجاه الذكاء الاصطناعي- أن يضعف قدرة الأميركيين الأثرياء على الإنفاق، وقد يكفي ذلك للتسبب في انخفاض حاد في الإنفاق الاستهلاكي، لا سيما أن الشركات التي تتعامل مع المستهلكين مباشرة طالما اشتكت من تراجع الإنفاق بين الأسر منخفضة ومتوسطة الدخل.
يُرجح أن يخرج هذا الانخفاض سوق العمل من نقطة توازن “انخفاض التوظيف والتسريح” الحالية، ويؤدي إلى موجة من التسريحات وارتفاع معدل البطالة، وركود محتمل. وقد يفضي إلى خفض ملموس بشكل أكبر في أسعار الفائدة.
رغم أن أسهم شركات “العظماء السبعة” تشكل مجتمعة ثلث قيمة مؤشر “إس آند بي 500″، إلا أنها تمثل أقل من 1% من إجمالي العمالة في الولايات المتحدة بعد استبعاد العاملين في مخازن “أمازون” وسائقيها. أجرت هذه الشركات عدة جولات من خفض الوظائف خلال السنوات القليلة الماضية، وقيدت عدد الموظفين، بينما تستثمر بشكل كبير في الذكاء الاصطناعي. لذلك، لا يبدو احتمال إجراء تلك الشركات موجة ضخمة من التسريحات مرتفعاً للغاية، حتى لو شهدت أسعار الأسهم انخفاضاً حاداً.
تكاليف الاقتراض
من ناحية أخرى، فإن خفض تكاليف الاقتراض سيعود بالنفع على الأسر وسيدعم الشركات المرتبطة باستهلاك الطبقة المتوسطة. كما أن انتعاش سوق الإسكان، مع تمكن المالكين من الاستفادة من حقوق ملكيتهم العقارية، سيحقق فوائد أوسع نطاقاً مقارنة بازدهار الاستهلاك الذي تقوده قلة من الأسهم في سوق الأوراق المالية والذي نشهده حالياً. من شأن تراجع تكاليف التمويل أن يحفز نشاط البناء، ويعزز الطلب على العمال في قطاعي التشييد والتصنيع، ما سيسهم في استقرار أسواق الأسهم واستهلاك البضائع والخدمات الفاخرة في نهاية المطاف.
هذا لا يعني أن على الأميركيين الذين لا يملكون محافظ استثمارية أن يتمنوا حدوث ركود -الركود يضر الجميع- لكن من المرجح بشدة أن يكون هذا الركود طفيفاً. كما أن مرحلة التوسع الاقتصادي التي ستعقبه قد تكون أكثر فائدة لعدد أكبر من الأميركيين مقارنة بالاقتصاد الحالي، الذي كان صعباً على الكثيرين.