يرى بعض الاقتصاديين أن الصين معرضة لخطر الدخول في صراع طويل الأمد، مشابه لما عانته اليابان في تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الجديدة، حيث واجهت انكماشاً اقتصادياً ونمواً ضعيفاً.
يوجد العديد من أوجه التشابه التي تدعم فرضية انزلاق الصين نحو “النموذج الياباني”. فكما حدث مع طوكيو بعد انفجار فقاعة اقتصادها، تكافح بكين لمواجهة النمو الضعيف وتراجع الأسعار وضعف الطلب على القروض وانخفاض عوائد السندات إضافةً إلى تراجع عدد السكان.
سيكون للتباطؤ في الصين خلال فترة طويلة تأثيرات أوسع على العالم، إذ يعتمد الاقتصاد العالمي اليوم على الصين بدرجة تفوق بكثير اعتماده السابق على اليابان.
ولن يقتصر التأثير على الاقتصادات فحسب، فقد كان يُتوقع في السابق أن تتفوق كل من اليابان والصين على الولايات المتحدة، لكن التباطؤ في البلدين جعل ذلك مستحيلاً بالنسبة لليابان وأقل ترجيحاً للصين. مع ذلك، لدى بكين ميزة التعلم من تجربة طوكيو، بما في ذلك الأخطاء السياسية التي ارتكبتها.
كيف انزلقت اليابان إلى عقودها الضائعة (الركود)؟
في أواخر الثمانينيات، كان الاقتصاد الياباني غارقاً في الائتمان الرخيص، مما شجّع الشركات والمستهلكين على التوسع في الاقتراض لشراء أصول مثل العقارات والأسهم. وأسهمت هذه النشوة في تضخم سوق الأسهم، لترتفع قيمتها بنحو 240% خلال خمس سنوات منذ 1985.
بعد سنوات من تشجيع التوسع في الائتمان، أدرك بنك اليابان ( المركزي) الحاجة إلى كبح النشوة المفرطة، فبدأ في تشديد السياسة الائتمانية بشكل حاد عام 1989، مما ساهم في انفجار فقاعة الثقة وأدى إلى انهيار حاد في أسعار الأصول.
امتد تأثير الانهيار إلى جميع أنحاء الاقتصاد، ما أدى إلى تراجع قيمة أصول الشركات وتراكم جبل من القروض المتعثرة على كاهل البنوك. ووسط مخاوف بشأن المستقبل، فقدت الأسر الثقة في الإنفاق.
كانت هذه بداية فترة “العقود الضائعة” لليابان، التي شهدت نمواً ضعيفاً وعانت خلالها البلاد أيضاً من أزمات مصرفية وأزمات ديون.
بعد تراجعها إلى أقل من خُمس قيمتها في ذروتها، استغرقت سوق الأسهم حتى عام 2024 لتجاوز مستواها القياسي المسجل في عام 1989، في حين لم تعد أسعار العقارات بعد إلى ذروتها في عام 1991.
رغم اعتماد بنك اليابان والحكومة على التحفيز لتشجيع المستهلكين والشركات على الاقتراض والإنفاق، فإن الأشخاص يتصرفون بعكس ذلك، وفضلوا الادخار بدلاً من الإنفاق. مع تراجع قيمة الأصول، ركزت الشركات على سداد الديون وتقليص الإنفاق على الاستثمار والأجور.
هل يتكرر الأمر نفسه في الصين؟
يقول الخبير الاقتصادي ريتشارد كو إن الصين تواجه الآن نفس النوع من “ركود الميزانية العمومية”. فبعد سنوات من توفير الائتمان السهل لسوق العقارات، أدى تحرك بكين في عام 2020 للحد من الديون المرتبطة بالعقارات إلى تراجع أسعار المساكن وانخفاض وتيرة البناء، ولا تزال الآثار المترتبة مستمرة.
بلغت وتيرة بناء المساكن الجديدة العام الماضي نحو ثلث مستواها إبان الذروة في 2019، وأدى الركود إلى تدمير الميزانيات العمومية لشركات تطوير العقارات.
أدى تراجع تطوير قطاع الإسكان إلى التأثير على مجموعة واسعة من الصناعات، مما دفع شركات صناعة الصلب إلى تكبد الخسائر. كما خفضت الأسر الاقتراض والإنفاق، وبلغ إجمالي الرهون العقارية الجديدة العام الماضي أقل من 40% من مستواها في ذروة 2021.
ومع ذلك، فإن الشركات الصناعية في الصين، خارج قطاع العقارات، تواصل الاقتراض بمعدلات مزدوجة الرقم ( أكثر من 10%)، مستفيدة من الدعم الحكومي للقطاعات الرئيسية.تمتلك الصين الآن نحو ثلث القدرة التصنيعية العالمية، إلى جانب العديد من الشركات سريعة النمو، خاصة في قطاع التكنولوجيا الحديثة.
قد يسهم الابتكار والصادرات والإنتاج الخارجي في مساعدة بكين على تعويض ضعف الاستهلاك المحلي، شريطة أن يظل الطلب الخارجي قوياً، وألّا تؤدي سياسات التعريفات الجمركية التي يفرضها دونالد ترمب وارتفاع الصادرات الصينية إلى موجة ممتدة من الحواجز التجارية الجديدة حول العالم.
شركات الصين لا تشهد نفس “مستوى الأسهم المتبادلة” التي ساعدت في انتشار الركود بعد الفقاعة في اقتصاد اليابان. لكن الخطر لا يزال قائماً بأن يمتد التباطؤ في قطاع العقارات ليصيب الاقتصاد بأكمله في نهاية المطاف.
ما الأخطاء التي ارتكبتها اليابان؟
يقول خبراء الاقتصاد إن أحد أهم الدروس المستفادة من تجربة اليابان هو خطر التراجع عن التحفيز الاقتصادي قبل الأوان. بعد نحو خمسة أعوام من انفجار الفقاعة الاقتصادية، بدا أن اليابان تعود إلى مسارها. الأمر الذي دفع الحكومة إلى تقليص الإنفاق وزيادة الضرائب خلال عام 1997، في محاولة لموازنة الميزانية والعودة إلى السياسات التقليدية.
لكن التراجع عن التحفيز الاقتصادي اتضح أنه كان سابقاً لأوانه، مما دفع الاقتصاد إلى الاتجاه المعاكس وأشعل موجة جديدة من انخفاض الأسعار. كما فاقمت الأزمة المالية الآسيوية وأزمة البنوك المحلية الضغوط على اقتصاد كان ينزلق نحو الانكماش والركود.
ما مدى خطورة انكماش الاقتصاد؟
تُظهِر تجربة اليابان أنه بمجرد انزلاق الاقتصاد إلى الانكماش، يصبح الخروج منه أكثر صعوبة. ورغم أن الموجة الأولى من انخفاض الأسعار بدأت في منتصف التسعينيات، فإن طوكيو لم تعلن رسمياً دخولها في حالة انكماش إلا في عام 2001.
إحدى المشكلات الرئيسية كانت أنه حتى بعد أن انتهت الشركات والأسر من إصلاح ميزانياتها العمومية، ظل المستهلكون والشركات مترددين في الإنفاق بسبب الواقع الجديد المتمثل في استقرار الأسعار أو تراجعها.
أدى ذلك إلى تقليص الاستهلاك والاستثمار والنمو وزيادة الأجور، مما وضع على عاتق الحكومة والبنك المركزي، عبء الحفاظ على استمرار أداء الاقتصاد.
ساعدت تدابير التيسير النقدي الضخمة في منع الأسعار من الانهيار، لكن الأمر تطلب صدمة خارجية مثل الجائحة لإعادة إشعال التضخم في عام 2021.
تشهد الصين حالياً أطول فترة من الانكماش منذ بداية القرن، كما يتضح من تراجع معامل انكماش الناتج المحلي الإجمالي. ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه.
حتى في القطاعات التي تبدو مزدهرة، مثل صناعة السيارات، لا تتمكن العديد من الشركات من البيع إلا من خلال تقديم خصومات كبيرة.
حث محافظ البنك المركزي السابق، يي جانج، العام الماضي صُنّاع السياسات على ضرورة وضع خطة تحفز التضخم. (مثل خفض أسعار الفائدة أو زيادة الإنفاق الحكومي).
بشكل عام، نعاني من مشكلة ضعف الطلب المحلي، خاصة في جانب الاستهلاك والاستثمار، مما يستدعي اعتماد سياسة مالية استباقية وسياسة نقدية متساهلة”، حسبما قال يي في تعليق علني نادر.
هل يؤثر حجم السكان؟”
رغم أن عدد سكان الصين يفوق بكثير عدد سكان اليابان، فإن النقطة الأساسية هي ما إذا كان في ازدياد أم لا. بدأ عدد سكان الصين في التراجع عام 2022، بعد نحو عام من بدء انفجار فقاعة الإسكان. ويُنظر على نطاق واسع إلى التراجع الديموغرافي باعتباره عاملاً مساهماً في تباطؤ النمو على المدى الطويل، ليس فقط بسبب انخفاض عدد المستهلكين، ولكن أيضاً لأن الناس يميلون إلى الإنفاق بشكل أقل والادخار أكثر مع تقدمهم في العمر.
تشير تجربة اليابان وغيرها من الدول المتقدمة إلى أن عكس مسار تراجع معدل المواليد أمر بالغ الصعوبة. وحتى الآن، تبدو الهجرة الوسيلة الوحيدة لدعم عدد السكان المتناقص. ومع ذلك، يمكن أن تسهم إطالة سنوات العمل في دعم القوى العاملة.
نتيجة لتأخر سن التقاعد وعودة النساء إلى سوق العمل، وصلت قوة العمل في اليابان إلى ذروتها عند ما يقرب من 70 مليون عامل في نهاية العام الماضي، وذلك بعد أكثر من عقد من بدء تراجع عدد السكان. وقد يساعد قرار الصين بتأخير سن التقاعد تدريجياً في تحقيق الهدف نفسه.
كما أن نسبة السكان الذين يعيشون في المدن في الصين أقل مقارنة باليابان، مما يعني أن انتقال المزيد من السكان إلى المدن قد يعزز الطلب على المساكن الجديدة ويدفعهم لتولي وظائف أكثر إنتاجية.
ما مدى احتمال حدوث اضطرابات اجتماعية نتيجة للأوضاع الاقتصادية أو الديموغرافية؟
كان التراجع الاقتصادي طويل الأمد في اليابان ضاراً بالمجتمع، حيث ارتفع معدل الانتحار في التسعينيات وازدادت معدلات البطالة، وكافح الشباب للعثور على فرصة عمل. ومع ذلك، ظلت البطالة أقل بكثير مقارنة بدول أخرى، حيث حدت القيود القانونية من عمليات التسريح الجماعي، وأعطى العمال والشركات الأولوية لاستقرار الوظائف على الأجور.
وبفضل نظام رعاية اجتماعية يتميز بقدر من السخاء، تمكنت اليابان من تجنب أسوأ الآثار الاجتماعية للركود الذي استمر لعقود. وبالمقارنة، تفتقر الصين إلى العديد من هذه الضمانات، إذ أن نسبة كبيرة من القوة العاملة تعمل في وظائف غير مستقرة ولا يحق لها الحصول على إعانات بطالة كافية.
تشكل النزاعات حول الأجور وظروف العمل بالفعل أحد الأسباب الرئيسية للمظاهرات والاضطرابات الاجتماعية.في السنوات الأخيرة، خرج بعض الناس إلى الشوارع للمطالبة بأن يكمل المطورون بناء منازلهم أو يعيدوا لهم ودائعهم.
ما الذي ينبغي على صناع السياسات فعله؟
في اليابان، قام بنك اليابان ووزارة المالية في النهاية بتنسيق السياسات لضمان توفير حوافز كافية للمستهلكين والشركات. ساعدت تخفيضات أسعار الفائدة وعمليات الشراء الضخمة للسندات والأصول الأخرى من قبل بنك اليابان الحكومة على الاقتراض بتكلفة منخفضة لدعم النمو وسد الفجوة التي خلّفها تراجع الطلب في القطاع الخاص. في نهاية المطاف، ساهم هذا التنسيق في تمهيد الطريق أمام اليابان للخروج من حالة الانكماش.
أصبح التحفيز المالي في الصين محدوداً حتى الآن. فقد ظل نمو الإنفاق أقل من نمو الناتج المحلي الإجمالي في كل عام منذ 2021، حيث أدى ركود قطاع الإسكان إلى انخفاض إيرادات الحكومة من مبيعات الأراضي وأجبرها على تقليص الإنفاق. وفي عام 2024، أخفقت الحكومة حتى في تحقيق أهدافها الخاصة بالإنفاق.
بدت بكين وكأنها أدركت الحاجة إلى تغيير المسار في أواخر العام الماضي، حيث خفّض البنك المركزي أسعار الفائدة، وأعلنت وزارة المالية عن برنامج مبادلة ديون بقيمة 1.4 تريليون دولار، مع تعهدها باتباع سياسة مالية ‘أكثر قوة’ (إجراءات مالية أكثر جرأة وتأثيراً) في عام 2025.
ومنذ ذلك الحين، لم يتخذ البنك المركزي إجراءات نشطة لدعم الاقتصاد، ولم يخفض أسعار الفائدة أو يسمح للبنوك باستخدام المزيد من احتياطياتها النقدية للإقراض.
بالإضافة إلى ذلك، يعد الوضع المالي لبكين أسوأ مما كانت عليه طوكيو قبل انفجار الفقاعة لديها، خاصة عند الأخذ في الاعتبار لجوء الصين بشكل مكثف إلى تقديم قروض لا يتم تسجيلها بشكل واضح في الميزانية العامة للدولة أو في السجلات المصرفية الرسمية.
يبقى السؤال المطروح هو ما إذا كانت الصين قادرة على زيادة الإنفاق بشكل مناسب رغم وضعها المالي، في عام 2025 وما بعده. التحفيز غير الكافي والتشديد المالي المبكر من الممكن أن يؤديا إلى إطالة أمد الركود أو حتى تفاقمه، كما حدث في اليابان، حيث أدى كل رفع في ضريبة المبيعات إلى دخول الاقتصاد في حالة انكماش.
الدرس المستفاد من تجربة اليابان هو أن “على الحكومة أن تفعل عكس ما يفعله القطاع الخاص للحفاظ على استمرار الاقتصاد”، وفقاً لما قاله الخبير الاقتصادي كو مؤخراً. (في إشارة إلى التدخل عكس اتجاه الدورة الاقتصادية الطبيعية).
وخلص إلى أنه إذا أرادت الصين تجنب تكرار تجربة اليابان، فعليها الحفاظ على تدفق التحفيز الضخم لمدة تتراوح بين 5 إلى 7 سنوات، حتى تتم إعادة إصلاح ميزانيتها العمومية.
اقتصاد الشرق مع بلومبرغ