تصدر أحد أبرز المتفائلين بمُستقبل النحاس الواجهة مُجدداً من خلال إطلاق توقعات جديدة بارتفاعات قياسية في أسعار المعدن؛ في ظل تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفرض رسوم جمركية ما يؤدى إلى استنزاف المخزونات العالمية، وخلق ما يعتبره فرصاً غير مسبوقة لتحقيق أرباح من تداول المعدن.
برز اسم كوستاس بينتاس كأحد أشهر المتداولين في أسواق المعادن خلال سنوات عمله على تطوير محفظة “ترافيغورا” (Trafigura Group) لتصبح الأكبر عالمياً في تجارة النحاس، قبل أن يغادرها في أواخر عام 2023. فهو يقود حالياً توسعاً جديداً في مجال المعادن لدى شركة تداول الطاقة “ميركوريا إنرجي غروب” (.Mercuria Energy Group Ltd)، حيث يعود ليؤكد مجدداً أن أسعار النحاس تتجه إلى تسجيل مستويات غير مسبوقة، مع احتمال ارتفاعها بنسبة تصل إلى الثلث مُقارنةً بالمستويات الحالية.
قال بينتاس في مُقابلة إن الكميات الكبيرة من المعدن التي تُوجّه إلى السوق الأميركية ستترك بقية أنحاء العالم، وعلى رأسها الصين، أكبر مستهلك للنحاس عالمياً، في وضع حرج نتيجة نقص المعروض.
أضاف: “نعتقد أن هناك شيئاً استثنائياً يحدث في سوق النحاس. هل من غير المنطقي توقع سعر للنحاس عند 12 ألفاً أو 13 ألف دولار؟ من الصعب تحديد رقم دقيق، لأن هذا الوضع لم نشهده من قبل”.
موجة صعود النحاس وتضرر الصين
كان بينتاس من أوائل الذين نبّهوا، ضمن مجموعة متزايدة من المتداولين والمستثمرين، إلى أن النحاس في طريقه إلى الدخول في موجة صعود تمتد لعدة سنوات عقب جائحة كورونا، وسط توقعات بأن الطلب المتنامي على مشاريع التحول الكهربائي سيتفوق على نمو الإمدادات. في “ميركوريا”، انضم بينتاس إلى نيك سنودون، الاستراتيجي السابق لقطاع المعادن في “غولدمان ساكس”، الذي توقع قبل نحو عام أن يبلغ متوسط أسعار النحاس 15 ألف دولار للطن في عام 2025.
رغم ذلك، خيّبت آمال المتفائلين بمسار النحاس في مناسبات عدة، كان آخرها العام الماضي حينما تجاوزت الأسعار مستوى 11 ألف دولار للطن، قبل أن تنخفض مع تراجع الطلب من المشترين في الصين.
لكن التغيرات التي أحدثها تهديد ترمب بفرض رسوم جمركية على واردات النحاس أعادت تشكيل ديناميكيات السوق. ورغم أن الولايات المتحدة لم تطبق حتى الآن رسوماً واسعة على واردات النحاس، فإن الأسعار المحلية ارتفعت بأكثر من 1500 دولار للطن مقارنة بالأسواق الأخرى، ما ولّد حافزاً ضخماً لدى المتداولين لشحن كل طن فائض إلى السوق الأميركية.
في هذا السياق، قال بينتاس: “من حيث هامش الربح لكل طن، لم أرَ فرصة تداول أفضل من هذه في حياتي المهنية”.
أشار إلى أن تحول المخزونات إلى السوق الأميركية يعني أن السوق الصينية ستعاني من نقص في المعروض، ما سيجبر المشترين الصينيين، الذين يمثلون أكثر من نصف الطلب العالمي، على التنافس مع السوق الأميركية. في الوقت ذاته، جفّت فعلياً الكميات الكبيرة من خردة النحاس التي كانت تتدفق عادةً من الولايات المتحدة إلى الخارج.
تابع بينتاس بالقول: “لطالما نجحت الصين تاريخياً في مقاومة الأسعار المرتفعة. لكن هذه المرة، ولأول مرة في التاريخ الحديث، هناك سوق أخرى تسحب الكميات من السوق الصينية. ولهذا السبب، فإننا أمام أرض غير معروفة تماماً”.
شحن النحاس إلى الولايات المتحدة
تشير تقديرات شركة “ميركوريا” (Mercuria) إلى أن نحو 500 ألف طن من النحاس في طريقه إلى الولايات المتحدة، وقد شُحن معظم هذه الكمية بالفعل، مقارنةً بمعدل واردات شهري معتاد يبلغ نحو 70 ألف طن فقط. يقوم المتداولون بشحن المعدن إلى السوق الأميركية سعياً للاستفادة من الفارق الكبير في الأسعار، وكذلك لتسريع شحنات كانت مخططاً لها مسبقاً بهدف تخليصها جمركياً قبل فرض أي رسوم محتملة.
أفادت الشركة أن لديها ما بين 85 ألف إلى 90 ألف طن من النحاس في طريقها إلى الولايات المتحدة، بينما ذكرت “بلومبرغ” في وقت سابق أن بعض المتداولين بدأوا في إعادة توجيه الشحنات المخصصة لعملاء آسيويين إلى السوق الأميركية.
بينتاس يشاركه آخرون هذه التوقعات بصعود الأسعار. فقد رفعت صناديق الاستثمار مراكزها الشرائية الصافية في عقود النحاس ببورصة لندن للمعادن إلى أعلى مستوى منذ مايو الماضي، بحسب بيانات البورصة. قال ديفيد ليلي، الرئيس التنفيذي لصندوق التحوط “درايكوود كابيتال مانجمنت” (.Drakewood Capital Management Ltd)، إن تحويل وجهة النحاس إلى السوق الأميركية سيضع المشترين الصينيين أمام “منافسة أشدّ بكثير للحصول على المعدن”.
ارتفعت أسعار النحاس عالمياً بشكل ملحوظ، حيث صعدت أسعار العقود القياسية في بورصة لندن للمعادن بنسبة 14% منذ بداية العام لتصل إلى 10,010 دولارات للطن يوم الإثنين، فيما اقتربت العقود الآجلة في بورصة “كومكس” الأميركية، التي تأثرت بتهديدات الرسوم الجمركية، من مستوياتها القياسية.
تشديد المعروض
على الرغم من أن السوق العالمية تُظهر بعض المؤشرات على تشديد المعروض، فإنها لم تصل بعد إلى حالة الضغط القصوى التي يتوقعها بينتاس. ففي بورصة شنغهاي للعقود الآجلة، دخلت أسعار النحاس في أوسع فجوة تراجع في أكثر من عام، حيث تُتداول العقود القريبة بسعر أعلى من العقود الآجلة ذات الآجال الأبعد، ما يشير إلى نقص في الإمدادات. كما بدأت العلاوات السعرية للنحاس في الصين بالارتفاع منذ نهاية فبراير، وإن بقيت عند مستويات معتدلة مقارنة بالمعايير التاريخية.
مع ذلك، فإن التوقعات بارتفاع أسعار النحاس قد تتعرض لضغوط إذا صحّت المخاوف من أن تؤدي حرب تجارية إلى تباطؤ اقتصادي عالمي.
لكن “ميركوريا” لا تبدي قلقاً من هذا الاحتمال، إذ تتوقع أن يتجاوز الطلب العالمي العرض بمقدار 320 ألف طن هذا العام، وهو ما قد يُسهم، إلى جانب تدفق المخزونات إلى السوق الأميركية، في استنزاف جزء كبير من المخزونات خارج الولايات المتحدة.
علاوةً على ذلك، فإن تهديد الرسوم الجمركية أدى إلى جفاف صادرات خردة النحاس الأميركية. وتشكّل الخردة نحو ثلث الإنتاج العالمي من النحاس، وغالباً ما يعمل هذا المصدر كمُثبت للسوق؛ إذ يزداد المعروض منه عند ارتفاع الأسعار، وينخفض عند انخفاضها.
في هذا السياق، قال نيك سنودون، رئيس قسم أبحاث المعادن في “ميركوريا”: “منذ فبراير، تراجعت صادرات الخردة الأميركية إلى مستويات شبه معدومة”، أضاف: “نشهد صدمة مفاجئة في سوق النحاس العالمية من خلال قناة الخردة هذه”.