فزع مؤشر «S&P500» لم يكن بسبب الحرب التجارية .. فما السبب؟

تطغى حالة من التوتر على سوق الأسهم الأميركية، حيث أثار التراجع الأخير لمؤشر “إس آند بي 500” (S&P500) بنسبة 10% مخاوف المستثمرين، لكن حالة عدم اليقين المتصاعدة بشأن السياسات، بالإضافة إلى التركز الكبير في أسهم محدودة، يجعلان من الصعب تحديد السبب الدقيق وراء مخاوف السوق.

هناك نقطتا ضعف أساسيتان: الأولى واضحة للعيان، والأخرى أقل وضوحاً. النقطة الواضحة تتمثل في القرارات والتصريحات المتتالية القادمة من البيت الأبيض، التي تؤثر بشكل مباشر على الشركات، وخصوصاً في مجال السياسة التجارية. نتيجة لهذا التوتر، بدأ بعض المسؤولين التنفيذيين في الشركات، الذين عادةً ما يكونون بعيدين عن السياسة، يعبرون علناً عن استيائهم من الأجندة الاقتصادية للإدارة الأميركية.

أما نقطة الضعف الأخرى فهي الرهان الكبير لمؤشر “إس آند بي 500” على أسهم مجموعة الشركات التكنولوجية الكبرى المعروفة باسم “العظماء السبعة”، التي تمثل وحدها قرابة ثلث وزن المؤشر. مثلما دعمت هذه الشركات السوق بفضل نموها المذهل لسنوات، فإن أي تباطؤ في أدائها سيكون له تأثير سلبي كبير.

هذان التهديدان سيظهران بطرق مختلفة. فالحرب التجارية ستضر بشكل أكبر بالقطاعات التي تستهدفها الرسوم الجمركية، مثل الطاقة والصناعة والمواد والمنتجات الاستهلاكية. بينما تباطؤ شركات التكنولوجيا الكبرى سيضرب مباشرة مجموعة “العظماء السبعة”، وهي: “أبل” و”مايكروسوفت” و”إنفيديا” و”أمازون” و”ألفابت” و”ميتا” و”تسلا”.

أسهم التكنولوجيا تهوي بـ”S&P500″

الآن، إذا نظرنا إلى ما حدث خلال موجة البيع الأخيرة، نجد أن جميع الشركات ضمن “العظماء السبعة” سجلت تراجعاً، وبلغ متوسط الانخفاض لديها 14.4%، وكانت خسائر هذه المجموعة مسؤولة عن نحو نصف التراجع الإجمالي لمؤشر “إس آند بي 500”. أما بقية الأسهم في المؤشر، فقد كان أداؤها أفضل، إذ حققت حوالي ربع الأسهم مكاسب خلال هذه الفترة، في حين بلغ متوسط الانخفاض 6.6% عند استبعاد “العظماء السبعة”.

كما أن عمليات البيع لم تركز بشكل حصري، أو حتى رئيسي، على الشركات المتأثرة مباشرة بالرسوم الجمركية. على سبيل المثال، شهد قطاعا الصناعة والمنتجات الاستهلاكية أداءً جيداً نسبياً، وكان من بين الأسهم التي حققت مكاسب شركات مثل صانعة السيارات “فورد”، وسلسلة متاجر البقالة “كروغر” (.Kroger Co). في المقابل، تعرض قطاع التكنولوجيا، الذي يُعد من القطاعات الأقل تضرراً من الرسوم الجمركية، لخسائر كبيرة. وكانت شركة “فيريساين” (.VeriSign Inc) الوحيدة في قطاع التكنولوجيا التي سجلت ارتفاعاً في أسهمها خلال هذه الفترة.

عند النظر عن قرب، يبدو أن موجة البيع الأخيرة في الأسهم الأميركية هي أقرب إلى إعادة تقييم لمستقبل شركات التكنولوجيا العملاقة أكثر من كونها ردة فعل على المخاوف من الرسوم الجمركية. من الصعب اكتشاف هذا الأمر إذا اكتفينا فقط بملاحظة الهبوط الإجمالي في مؤشر “إس آند بي 500″، لأن جزءاً كبيراً من النتيجة يهيمن عليه أداء سبع شركات فقط، مما يخفي الأداء الحقيقي لمئات الأسهم الأخرى، لا سيما الـ200 إلى 300 سهم الأصغر من حيث القيمة السوقية ضمن المؤشر.

التركيز على أسهم التكنولوجيا

قد يكون تركيز السوق على شركات التكنولوجيا الكبرى جزءاً من إدراك أوسع بأن الاقتصاد الأميركي يتباطأ بالفعل، وبأن معدل التضخم ما يزال مرتفعاً على نحو مستعصٍ فوق هدف “الاحتياطي الفيدرالي” البالغ 2%، وهو ما أشار إليه رئيس “الفيدرالي” جيروم باول الأربعاء الماضي. تعكس أسواق السندات هذه المخاوف منذ مدة؛ حيث سجلت عوائد سندات الخزانة الأميركية لأجل سنتين وعشر سنوات انخفاضاً في الأسابيع الأخيرة، في حين بقي معدل التعادل لخمس سنوات (الفرق بين العوائد الاسمية والعوائد المعدلة حسب التضخم) عند مستوى قريب من 2.5%، بعد أن كان أقرب إلى 2% في سبتمبر.

هنا، المسألة ليست أن شركات التكنولوجيا الكبرى معرضة بشكل خاص لضعف الاقتصاد، بل بالعكس، يوفر لها حجمها الكبير حماية نسبية أفضل من معظم القطاعات الأخرى. لكن مجموعة “العظماء السبعة” نمت بوتيرة مذهلة للغاية ولسنوات طويلة، وأي تراجع في معدلات نموها من مستويات استثنائية إلى مستويات أكثر اعتيادية، سيشكل في حد ذاته انتكاسة كبيرة.

سيلقي ذلك بظلال قاتمة على “إس آند بي 500” عموماً، وربما يكون أكثر تأثيراً عليه من أي قرار أو حدث سياسي في واشنطن.

يرجع السبب في ذلك إلى أن شركات التكنولوجيا العملاقة هذه كانت المحرك الرئيسي لمعظم المكاسب التي سجلتها السوق على مدار العقد الماضي على الأقل. على سبيل المثال، سجل مؤشر “بلومبرغ” لمجموعة “العظماء السبعة” ارتفاعاً بنسبة 36% سنوياً بين يونيو 2015 وفبراير الماضي (باستثناء توزيعات الأرباح)، وهو أضعاف المعدل التاريخي لمؤشر السوق الأوسع، الذي يبلغ حوالي 6% سنوياً منذ عام 1928. إذا حذفنا هذه الشركات السبع من المؤشر، يتراجع العائد السنوي لـ”إس آند بي 500″ منذ 2015 إلى نسبة عادية وغير ملفتة هي 5% فقط سنوياً.

أسرع موجات النمو

من المهم ملاحظة أن الارتفاع الاستثنائي لهذه الشركات لم يكن ناتجاً عن موجة مضاربة، كتلك التي شهدناها في تسعينيات القرن الماضي (مع شركات الإنترنت)، أو الستينيات (ما عُرف بمجموعة Nifty Fifty) التي زادت فقاعة تقييماتها. بل يعود النجاح الحالي إلى واحدة من أسرع موجات النمو في أرباح الشركات المسجلة على الإطلاق. فمنذ عام 2015، نمت أرباح السهم لمجموعة “العظماء السبعة” بمعدل سنوي بلغ 37%، أي أكثر من خمسة أضعاف معدل نمو الأرباح السنوي التاريخي لمؤشر “إس آند بي 500” منذ خمسينيات القرن الماضي. بالمقابل، لم تكن باقي الشركات ضعيفة؛ إذ زاد معدل أرباحها السنوي بنحو 8% في الفترة ذاتها، لكن نموها البارز هذا بقي متواضعاً بالمقارنة مع أرقام شركات التكنولوجيا الضخمة.

نظراً لأن نمو الأرباح (وليس ارتفاع التقييمات) هو ما دفع أسهم مجموعة “العظماء السبعة” للارتفاع، فمن المنطقي افتراض أن تراجع الأسهم مؤخراً ناجم أيضاً عن تغير في التوقعات المستقبلية لنمو الأرباح، التي من المتوقع الآن أن تكون أقل. يدعم هذا التحليل تقييمات هذه الشركات، التي لا تزال مرتفعة نسبياً، ولكن ليست بشكل مفرط أو غير منطقي (باستثناء سهم “تسلا”). على سبيل المثال، تبلغ قيمة سهم “ألفابت” حالياً 17 ضعفاً مقارنة بأرباح الـ12 شهراً المقبلة، بينما تبلغ قيمة “ميتا” حوالي 22 ضعفاً، وتتراوح باقي الشركات في نطاق متوسط العشرينات. هذه الأرقام لا تزيد كثيراً عن متوسط تقييم باقي أسهم المؤشر، الذي يبلغ نحو 20 ضعفاً.

إذا استمرت السوق في التركيز على شركات “العظماء السبعة”، فمن المحتمل أن يشهد مؤشر “إس آند بي 500” مزيداً من التراجعات حتى لو تحسن الكثير من أسهم الشركات الأخرى ضمن المؤشر. في هذه الحالة، قد تتزامن خسائر المؤشر مع تطورات سياسية في العاصمة الأميركية، لكنها لن تكون بالضرورة مرتبطة بها بشكل مباشر.

كما يمكن أن يحدث العكس تماماً؛ فإذا تصاعدت الحرب التجارية بشكل كبير، قد تتحمل الشركات الصغيرة (التي لا تمتلك قدرة كافية على تمرير التكاليف المرتفعة إلى المستهلك) الجزء الأكبر من العبء، بينما تبقى شركات التكنولوجيا الكبرى أقل تأثراً. في هذه الحالة، قد يبدو “إس آند بي 500” هادئاً نسبياً، رغم تضرر العديد من الشركات.

الشيء الوحيد المؤكد في هذا السياق هو أن سوقاً واسعة يتحكم فيها أداء سبع شركات فقط ليست مؤشراً دقيقاً أو جيداً لما يحدث فعلاً في الاقتصاد والأسواق.