تعد عملة الدولار الأميركي أحد أبرز ضحايا الحرب التجارية في ظل التطورات الأخيرة التي أشعلتها قرارات الولايات المتحدة في ما يعرف بـ “يوم التحرير” الثاني من أبريل/ نيسان، عندما أعلنت عن فرض رسوم جمركية شاملة ومتبادلة على العديد من دول العالم، وردود أفعال بعض الدول عليها.
وشهدت العملة الأميركية تراجعاً كبيراً خلال شهر أبريل/ نيسان الجاري، ليصل مؤشر الدولار إلى أقل مستوياته خلال ثلاث سنوات، تزامناً مع التوترات التجارية المصاحبة لإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض الرسوم الجمركية التي أعلنها، والتي علق بعضها في وقت لاحق، لكن استمرار التوترات مع الصين، والمزيد من الإعلانات عن دراسة فرض رسوم جمركية انعكس على أداء العملة.
وانخفض مؤشر الدولار (مقابل سلة من ست عملات رئيسية) بنحو 4.7% منذ بداية شهر أبريل/ نيسان، ليصل إلى أقل مستوياته في نحو ثلاث سنوات منذ مارس/ آذار 2022.
ومنذ منتصف يناير/ كانون الثاني (قبيل تولي ترامب منصبه)، انخفض مؤشر الدولار بنسبة 9% مقابل سلة من العملات، وهو انخفاض نادر وحاد، ويعتبر أسوأ بداية لعام في تاريخ تداول المؤشر الممتد لأربعة عقود، مما يُثير مخاوف من احتمال فقدان المستثمرين ثقتهم بالولايات المتحدة.
تتحرك العملات ارتفاعاً وانخفاضاً باستمرار بسبب مخاوف التضخم، وتحركات البنوك المركزية، وعوامل أخرى. لكن اقتصاديين يخشون من أن يكون الانخفاض الأخير في قيمة الدولار حاداً لدرجة تعكس مخاوف استثمارية أعمق في ظل سعي الرئيس دونالد ترامب لإعادة تشكيل التجارة العالمية.
تقليدياً، من المتوقع أن ترتفع قيمة الدولار مع تسبب الرسوم الجمركية في انخفاض الطلب على المنتجات الأجنبية. لكن أداء الدولار مؤخراً لم يقتصر على الفشل في تعزيز قوته فحسب، بل انخفض بشكل حاد أيضاً، مما حير الاقتصاديين وأضرّ بالمستهلكين.
هل اهتزت الثقة في الدولار؟
بحسب تقرير لشبكة CBS، عززت الإدارات الأميركية، الديمقراطية منها والجمهورية، هيمنة الدولار على التجارة عبر الحدود، كملاذ آمن، لعقود من الزمن، لأنها تُساعد على إبقاء تكاليف الاقتراض الأميركية منخفضة، وتُتيح للولايات إبراز قوتها في الخارج – وهي مزايا هائلة قد تختفي إذا تضررت الثقة بواشنطن.
وقال الخبير الاقتصادي بجامعة كاليفورنيا، باري آيكينغرين،: “بُنيت الثقة والاعتماد العالميان على الدولار على مدى نصف قرن أو أكثر. ولكن هذه الثقة والاعتماد قد يزولان في لمح البصر”.
أيضاً عبر كبير محللي السوق في FxPro، أليكس كوبتسيكيفيتش، عن مخاوفه من تزامن تراجع الدولار مع انخفاض أسواق الأسهم والسندات الأميركية، وقال: “من المقلق للغاية أن كلاً من الأسهم والسندات الأميركية تنخفض خلال هذه الفترات – وهي ظاهرة شائعة في الأسواق الناشئة، لكنها نادرة في الأسواق المتقدمة، ونادراً ما تحدث في أميركا”.
وأضاف كوبتسيكيفيتش: “هذه إشارة واضحة من المتداولين على أن الحروب التجارية تُضعف بشدة ‘الامتياز الباهظ’ الذي تمتعت به الولايات المتحدة على مدى نصف القرن الماضي”.
ومع ذلك، لا يعتقد العديد من المستثمرين أن الدولار قد يفقد مكانته سريعاً كعملة احتياطية عالمية، لكنه يتوقعون تراجعاً بطيئاً. ويرى بعض الخبراء أن تراجع الدولار قد يكون راجعاً إلى المبالغة في تقييمه، وليس إلى أي تغيرات كامنة في قوة العملة الأميركية.
مخاوف من فقدان مميزات الدولار القوي
وأشار تقرير الشبكة الإعلامية إلى المخاوف من فقدان العديد من المميزات التي قد يفقدها اقتصاد الولايات المتحدة والمستهلكين الأميركيين من قوة الدولار وهيمنته عالمياً.
وحذر دويتشه بنك Deutsch Bank، في مذكرةٍ لعملائه في وقت سابق من هذا الشهر، من “أزمة ثقة”، وقال: “تتآكل خصائص الدولار كملاذٍ آمن”.
وأضاف تقرير أكثر تحفظاً عن كابيتال إيكونوميكس Capital Economics: “لم يعد من المبالغة القول إن مكانة الدولار كاحتياطي ودوره المهيمن الأوسع نطاقاً موضع شكٍ إلى حدٍ ما على الأقل”.
ومن بين تلك المميزات التي تثور المخاوف من فقدانها في حالة ضعف هيمنة الدولار وانخفاض قيمته قدرة الحكومة والمستهلكين والشركات في الولايات المتحدة على الاقتراض بمعدلات فائدة منخفضة، مما يعود بالإيجاب على النمو الاقتصادي ورفع مستويات المعيشة، إلى جانب فقدان القدرة على معاقبة بعض الدول والسيطرة عليها من خلال حرمانها من العملة التي تحتاج إلى تداولها مع الآخرين.
أيضاً من بين تلك المخاوف أن يؤدي هبوط الدولار إلى تفاقم ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة من الخارج التي من المتوقع أن تزيد أساساً بسبب الرسوم الجمركية الجديدة، إلى جانب القلق من زيادة معدلات الفائدة على الدين الفدرالي الأميركي الذي وصل إلى نحو 120% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة.
وقال الخبير الاقتصادي في مجلس العلاقات الخارجية، بن ستيل لشبكة CBS: “معظم الدول التي تعاني من هذا الدين نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي قد تتسبب في أزمة كبرى، والسبب الوحيد الذي يجعلنا ننجو من ذلك هو حاجة العالم إلى الدولار للتداول به”. ويضيف: “في مرحلة ما، سيبحث الناس بجدية عن بدائل للدولار”.
ماذا يعني الدولار الضعيف للاقتصاد العالمي؟
لا تقتصر أضرار هبوط الدولار بهذا الشكل على اقتصاد الولايات المتحدة ومستهلكيها فقط، بل أصبح الضعف غير المتوقع للدولار الأمريكي فجأة يمثل مشكلة عالمية، بحسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
وذكرت أن هبوط الدولار إلى جانب الرسوم الجمركية الأميركية تمثل “ضربة مزدوجة” بالنسبة للبائعين الأجانب لمختلف أنواع السلع، بما في ذلك السيارات والمشروبات الكحولية ومنتجات أقمشة التويد الاسكتلندي.
كما يفاقم هبوط الدولار مقابل العديد من العملات الضغوط على البنوك المركزية حول العالم، من أجل خفض معدلات الفائدة بشكل أكثر حزماً.
عواقب وخيمة
نظراً لدوره كعملة رئيسية في التجارة والتمويل العالميين، فإن تقلبات الدولار لها عواقب عالمية وخيمة. وقال رئيس أبحاث الأسواق العالمية في بنك MUFG الياباني، ومقره لندن، ديريك هالبيني: “بالنسبة للمصدرين، لن تُخفض العملة بعض آثار الرسوم الجمركية على المستهلك الأميركي النهائي”. وأضاف: “بل سيكون لها تأثير سلبي أكبر بالتأكيد”.
من ناحية أخرى، أيضاً يقلل ضعف الدولار من قيمة أرباح الشركات الأجنبية من أقسامها الأميركية عند تحويلها إلى عملات بلادها الأصلية مثل اليورو أو الين. فعلى سبيل المثال قد تواجه شركة تويوتا Toyota اليابانية ضربةً في أرباحها نتيجة ارتفاع قيمة الين إلى أكثر من 143 يناً للدولار الواحد مقابل 157 في بداية العام. وذلك بعد أن كان يعزز ضعف الين ربحية الشركة وغيرها من شركات التصدير اليابانية الكبرى.
أيضاً شركات السلع الفاخرة مثل Prada وLVMH، وشركات بيع المشروبات الكحولة من المتوقع أن تتأثر نتائج أعمالها بسبب تقلبات العملة الأخيرة، وفقاً لبنك UBS.
وخفض Deutsch Bank توقعاته لأرباح الشركات المدرجة في مؤشر الأسهم الأوروبي Stoxx 600 من 6% إلى 4%، مشيراً إلى ضعف الطلب وقوة اليورو. وحذر البنك من أنه قد يُخفض نقطة مئوية أخرى من توقعاته للنمو إذا ظل اليورو عند مستواه الحالي.
ومن بين أسباب ارتفاع العملات الأخرى مقابل الدولار، بحسب ما أشار إليه تقرير الصحيفة، إلى أنه مع بيع المستثمرين لأصول الدولار يُعيدون تدويرها في عملات محلية، مما يرفع قيمتها.
الضغط على النمو الضعيف
من المرجح أن يضغط ارتفاع قيمة العملات الأجنبية على النمو الاقتصادي الضعيف أصلاً في أوروبا والمملكة المتحدة واليابان. ومن المرجح أن يعني تراجع قيمة الدولار انخفاض عدد السياح من الولايات المتحدة وقلة إنفاقهم، وذلك بعد استفادتهم من قوة الدولار في السنوات الأخيرة للذهاب في رحلات إلى أماكن مثل إسبانيا واليابان، مما عزز النشاط الاقتصادي على نطاق أوسع في تلك البلاد.
من جانبه، خفض كبير الاقتصاديين بشركة Vanguard، في لندن، شان رايثاثا، هذا الأسبوع توقعاته لنمو اقتصاد منطقة اليورو لهذا العام والعام المقبل.
ويتوقع رايثاثا أن ينمو اقتصاد المنطقة خلال العام 2025 بنسبة 0.8% فقط مقارنة بتوقعاته السابقة البالغة 1%، كما توقع نمواً بنسبة 1% في العام المقبل بدلاً من 1.6% في التوقعات السابقة.
من المتوقع أيضاً أن تؤدي العملات الأقوى والرسوم الجمركية إلى خفض التضخم في بقية العالم، على عكس الولايات المتحدة، حيث حفزت الرسوم الجمركية ارتفاعاً في توقعات التضخم.
وقال رايثاثا: “قبل ظهور كوفيد، كانت الحالة النفسية في أوروبا تميل إلى انخفاض التضخم بشكل كبير. يكمن الخطر في العودة إلى هذا النوع من العالم بدلاً من التضخم المرتفع الذي هيمن على مدار العامين أو الثلاثة أعوام الماضية”.
وبعد أن خفض البنك المركزي الأوروبي معدل الفائدة ربع نقطة مئوية يوم الخميس. من المقرر ألا يجتمع البنك المركزي السويسري مرة أخرى حتى يونيو/ حزيران، لكن بعض المستثمرين يعتقدون أنه قد يُجري خفضاً لمعدلات الفائدة في اجتماع طارئ للمساعدة في خفض قيمة عملته.
وارتفع الفرنك بأكثر من 10% هذا العام مقابل الدولار، مما أثار احتمال مواجهة البلاد للانكماش، مع زيادة تكلفة صادراتها الرئيسية مثل الساعات والآلات عالية الدقة.