لبنان على الحافة… في مرمى نيران حرب ترامب التّجاريّة

مع عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، عادت القومية الاقتصادية إلى الأداء الانتقامي. لم يعد هذا النهج شعاراً لحملة انتخابية أو موقفاً عابراً، بل أصبح العقيدة الحاكمة لأقوى اقتصاد في العالم. لا يُقلق إحياء ترامب السريع للسياسات التجارية الحمائية وازدراء التعدّدية الأسواق فقط، بل يهزّ أيضاً أسس النظام العالمي الذي أرسته الولايات المتّحدة.

ينصبّ الكثير من اهتمام العالم في هذه الحرب على العمالقة، الصين والاتّحاد الأوروبي، وسلاسل التوريد العالمية. ولكن مع توسّع رقعة التداعيات إلى خارج حدود هذه الكيانات، نجد أنّ الدول الأصغر المنكوبة بالأزمات، مثل لبنان، هي الأكثر ضعفاً، وسوف تكون الأكثر تأثّراً بهذا النمط من الحروب. لبنان ليس في خطّ النار المباشر، لكن في عالم اليوم الممزّق يمكن أن يكون النسيان محفوفاً بالمخاطر مثل الاستهداف.

تُرِك لبنان، الذي أُضعف بالفعل بسبب الانهيار الماليّ وحرب إسرائيل عليه والفشل السياسي، لمواجهة الحقيقة المرّة: أصبحت كلّ دولة من دول عالمنا اليوم تتطلّع إلى الداخل، وشبكة الأمان التي كان يعتمد عليها لبنان ذات يوم تتعرّض للتلاشي. هذا هو الواقع الجديد (The New Normal).

لا تتعلّق حرب ترامب التجارية فقط بالرسوم الجمركية. يتعلّق الأمر بالتراجع عن عقود من الترابط الاقتصادي العالمي بهدف التأسيس لقواعد ارتباط جديدة، ومن المرجّح أنّها لن تكون صديقة للدول المنكوبة. إنّ التعدّدية والمساعدات الخارجية والتعاون الدولي تفسح المجال لدبلوماسية المعاملات والحفاظ على الذات الاقتصادية. في هذا العالم الجديد، تبقى البلدان المتعثّرة مثل لبنان ذات عدد أقلّ من الحلفاء وشرايين الحياة.

يسعى لبنان، الذي دمّره الانهيار الاقتصادي وأنهكه الدمار المرتبط بحرب إسرائيل على أرضه والخلل المؤسّسي، إلى مساعدة عاجلة من الحلفاء الخليجيين والشركاء الأوروبيين وصندوق النقد الدولي. لكن من غير المرجّح أن تحشد أميركا – ترامب هذا الدعم. تبتعد الولايات المتّحدة عن المسؤولية العالمية وتتّجه نحو حسابات أنانيّة تتمثّل في: “ما الفائدة من ذلك؟” (What’s in it for me?!).

عاصفة من الآثار غير المباشرة

إنّ التأثير العالميّ للحرب التجارية محسوس بالفعل في أسواق النفط وتدفّقات الاستثمار والضغوط التضخّمية. بالنسبة للبنان، ستكون العواقب شديدة التأثير، لا سيما على المستويات التالية:

– التضخّم المستورَد: يستورد لبنان كلّ شيء تقريباً. وستؤدّي الاضطرابات في التجارة العالمية وتقلّب العملة إلى تضخيم الأسعار وتعميق الفقر، لا سيما في غياب نظم دعم فعّالة.

– لامبالاة المانحين: مع أجندة ترامب المنغلقة على الداخل، تتقلّص ميزانيات المساعدات الغربية أو يعاد تخصيصها بناء على الولاء السياسي بدلاً من الإلحاح الإنساني. قد يكافح لبنان للبقاء في أولويّة الدول، وتحديداً الصديقة منها.

– تجميد الاستثمار: يؤدّي عدم اليقين الناجم عن سياسات ترامب الاقتصادية إلى تبنّي المستثمرين العالميين عقليّة الابتعاد عن المخاطرة. سيتراجع لبنان، مع أزمته المصرفية التي لم تُحَلّ والضباب التنظيميّ، إلى أسفل قائمة وجهات الاستثمار.

ترامب

على عكس دول مجلس التعاون الخليجي التي لا تزال تمتلك احتياطيات ونفوذاً، يفتقر لبنان إلى كليهما، وقد يواجه عزلة استراتيجيّة تكون أحد آثار هذه المتغيّرات. يدخل لبنان هذا الواقع العالمي الجديد من موقع ضعف شديد، ومساحة التعافي تضيق، والتطوّرات في المنطقة وفي العالم لا تجعل الوقت لمصلحته. من دون إصلاحات داخليّة قويّة واستراتيجية خارجيّة ذكيّة، يخاطر لبنان بأن يصبح يتيماً جيوسياسياً، فيتجاهله المانحون ويهمله المستثمرون ويتركوه خارج خطط إعادة الإعمار.

الاستقرار ضرورة إقليمية..

ليست إعادة إعمار لبنان مهمّة هندسية أو ماليّة بل هي مهمّة دبلوماسية. وتواجه الأطر القديمة للمساعدة الدولية التآكل. إذا استمرّ لبنان في الاعتماد على الوعود التقليدية لمؤتمرات المانحين وبوادر النوايا الحسنة، فسوف يصاب بخيبة أمل.

يجب أن نعيد صياغة انتعاشنا بوصفه أولويّة استراتيجيّة للمنطقة. ليس الاستقرار في لبنان مصدر قلق محلّي، بل ضرورة إقليمية. يجب ألّا نناشد العواطف، بل المصلحة المشتركة. ويجب أن نفعل ذلك بأمانة في شأن أوجه القصور لدينا وبوضوح في شأن الإصلاحات التي نرغب في سنّها.

لفترة طويلة جدّاً، لعبت الطبقة السياسية في لبنان على وتر الحنين إلى الماضي، لا سيما مع فرنسا، والتحالفات الرمزية لجذب الاهتمام الدولي. لكنّ العالم قد تغيّر، ويجب علينا أيضاً أن نتغيّر. لم تعد المساعدات تقدَّم لأولئك الذين يعانون ويتألّمون بصوت عال، بل تخصَّص لأولئك الذين يساعدون أنفسهم أوّلاً.

إنّ رفض لبنان المستمرّ لمواجهة الخلل الوظيفي التي وعد بها، والوفاء بالإصلاحات الموعودة، ومحاسبة الجهات الفاعلة الفاسدة، قد استنفد النوايا الحسنة حتّى لأقرب حلفائه. في عالم حيث فترات الاهتمام قصيرة والأزمات كثيرة وكبيرة، لا يمكن لأيّ بلد أن يتوقّع من دون مصداقية تعاطفاً لا نهاية له.

ما نحتاج إليه الآن ليس حملة علاقات عامّة، بل تحوُّل في السياسة. الشفافيّة واستقلال القضاء والمساءلة الماليّة ليست شروطاً أجنبيّة يفرضها الغرباء، بل إنّها رغبة كلّ لبناني يتطلّع إلى مستقبل أفضل له ولأولاده. إنّهم الحدّ الأدنى من مسؤوليّة الدولة. من خلال احتضانهم فقط يمكن للبنان أن يعيد تقديم نفسه شريكاً يستحقّ الإنقاذ لا دولةً محطّمةً تتوسّل الإنقاذ.

دعوة إلى الواقعيّة والإلحاح

لا تستهدف حرب ترامب التجارية لبنان، لكنّ آثارها المتتالية ستصل شواطئنا. لم يعد هذا نظريّاً. نحن أكثر انكشافاً من أيّ وقت مضى، ضعفاء اقتصاديّاً، معزولون دبلوماسيّاً، ومشلولون سياسيّاً. ونحن الآن أكثر اعتماداً من أيّ وقت مضى على نظام عالمي آخذ في الانهيار.

إذ يُعاد تشكيل المؤسّسات التي لجأنا إليها ذات يوم، كصندوق النقد الدولي والأمم المتّحدة والجهات المانحة الإقليمية، من خلال سياسات القوّة وإرهاق المانحين والإرهاق الاستراتيجي. لم يعد التضامن تلقائيّاً. لم تعد المساعدة غير مشروطة.

في لحظة الخطر هذه، يجب على لبنان أن لا يتحرّك فقط لإعادة بناء اقتصاده المحطّم، بل لإعادة تقديم نفسه إلى عالم أصبح أكثر تشكّكاً وأكثر تعاملاً وأقلّ صبراً. يجب أن لا نقدّم أنفسنا عبئاً بحاجة إلى الإنقاذ، بل شريكاً مستعدّاً للتغيير. هذا يتطلّب أكثر من الخطب والمحاضرات الفارغة والصوريّة. إنّه يتطلّب شجاعة سياسية ونزاهة مؤسّساتية ومستوى من التنسيق فشلنا منذ فترة طويلة في تحقيقه.

هذا ليس وقتاً للتخطيط فقط. إنّه وقت التكيّف أو التخلّف عن مواكبة المتغيّرات. العالم يتحرّك. إذا أراد لبنان أن يظلّ ذا أهمّية، فعليه أن يفعل أكثر من البقاء على قيد الحياة. يجب أن يتطوّر.

محمد فحيلي.

* باحث لدى كليّة سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB).