كيف تعمل الصين بهدوء للخروج من عباءة الأصول الدولارية وتنويع استثماراتها؟

تعمل الحكومة الصينية خلال الفترة الأخيرة على تنويع استثماراتها بهدوء وخلف الأضواء وذلك بعيداً عن سندات الخزانة الأميركية التي لم تعد مصدر ثقة لدى البعض بنفس القوة السابقة في ظل ما قد تتعرض له من تداعيات بسبب الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين وسياسة الرسوم الجمركية التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

لطالما مثلت السندات الحكومية الأميركية حجر الأساس لاحتياطيات الصين من النقد الأجنبي البالغة 3.2 تريليون دولار. وحتى الآن، لم يُصدر أي مؤشر علني على أي تغيير في هذه الاستراتيجية، على الرغم من فرض الرسوم الجمركية والتقلبات الأخرى في السياسة الأميركية.

في إحاطة صحفية خلال الأسبوع الحالي، ذكر نائب محافظ بنك الشعب الصيني، زو لان، أن محفظة الاستثمار مُنوّعة بالفعل بشكل فعال، وأن “تأثير التقلبات في أي سوق أو أصل مُنفرد على احتياطيات الصين من النقد الأجنبي محدود بشكل عام”.

لكن ذلك لم يمنع العديد من المستشارين والباحثين والأكاديميين من إعرابهم عن القلق بشأن مستقبل الاستثمار في سندات الخزانة الأميركية. وقال الزميلان البارزان في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية يانغ بانبان، وشو تشي يوان، في مقال نُشر في أبريل/نيسان: “لم تعد سلامة سندات الخزانة الأميركية أمراً مُسلّماً به. لقد ولّى ذلك العصر، وعلينا أن نشعر بالقلق إزاء هذا التغيير من منظور حماية حيازاتنا من سندات الخزانة”.

مع تفكيك ترامب لنظام التجارة العالمي وانتقاده العلني للاحتياطي الفدرالي الأميركي بسبب السياسة النقدية، بدأ المستثمرون على نطاق أوسع يتساءلون عن مكانة الدولار، وسندات الخزانة كملاذ آمن، بحسب تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية.

الانتقال التدريجي إلى استثمارات أخرى

وتسببت عمليات البيع المكثفة لسندات الخزانة الأميركية خلال الشهر الماضي، بعد إعلان ترامب فرض رسوم جمركية شاملة على الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، في مخاوف كبيرة بواشنطن وأماكن أخرى تتمثل في أن الصين قد تنتقم من الولايات المتحدة عبر بيع حيازاتها من السندات الأميركية. قد يؤدي ذلك إلى تقلبات مقلقة في أصل تطمع البنوك المركزية ومديرو الأصول وصناديق التقاعد حول العالم في استقراره.

لكن مسؤولين مطلعين على عمل “إدارة الدولة للنقد الأجنبي”، والمعروفة بـ “Safe” بالصين، يقولون إن الوكالة لا تعتبر التحرك الضخم خياراً معقولاً، مفضلةً الانتقال التدريجي من سندات الخزانة إلى أصول أخرى قصيرة الأجل والذهب على مدى سنوات.

يصف أحد المقربين من “Safe” هذه العملية بـ”tengnuo”، وهي عبارة صينية تعني “المناورة الرشيقة على حبل مشدود”. وتهدف إلى تحقيق توازن بين سيولة الأصول وسلامتها وتحقيق عوائد مستقرة.

مخاوف من انتقال الصراع إلى الأصول الصينية

يُمثل تقلب السياسات في واشنطن وعدم القدرة على التنبؤ بها مشكلةً لوكالة “Safe” التي تتحرك ببطء، حيث يرى البعض أن استراتيجية “tengnuo تبدو حالياً غير مستدامة بشكلٍ متزايد.

وقال العضو السابق في لجنة السياسة النقدية في بنك الشعب الصيني والمستشار الأول للحكومة، يو يونغدينغ، خلال مؤتمر عُقد في أوائل أبريل: “أشعر بقلقٍ عميق من أن النزاع التجاري الأميركي الصيني المتواصل قد يمتد إلى الأصول الأجنبية للصين”.

واستشهد بتكهناتٍ إعلامية حول “اتفاقية مار إيه لاغو” على غرار اتفاقية بلازا لعام 1985. واستناداً إلى مقال للرئيس الحالي لمجلس المستشارين الاقتصاديين لترامب، ستيفن ميران، فإن الهدف من مثل هذه الخطة هو إضعاف الدولار وإقناع الحكومات الأخرى بمبادلة سندات صفرية الكوبون لأجل 100 عام بحيازاتها الحالية من سندات الخزانة، في مقابل تسهيلات تتعلق بالتعرفات التجارية.

والسندات صفرية الكوبون هي أوراق مالية مكونة من دفعة واحدة لا تتضمن مدفوعات فائدة خلال فترة أجل السند. ويباع ه

احتياطي الصين وأصولها الدولارية

يعد تعرض بكين الشديد للأصول الدولارية هو إرث من ازدهارها الاقتصادي القائم على التصدير وفائضها التجاري الممتد لعقود مع الغرب.

ومع إنفاق المستهلكين في الخارج تريليونات الدولارات على السلع المصنعة المتدفقة من مصانع الصين، غالباً ما أُعيد تدوير الدولارات التي تدفقت في الاتجاه المعاكس إلى سندات الخزانة الأميركية، مما ساعد واشنطن على تمويل عجز ميزانيتها.

ووصلت احتياطيات الصين المقومة بالدولار إلى ذروتها عند نحو أربعة تريليونات دولار في عام 2014، وفقاً لبيانات البنك المركزي، وظلت أعلى من مستوى ثلاثة تريليونات دولار منذ عام 2016.

وعلى الرغم من عوائدها المنخفضة نسبياً، شكلت سندات الخزانة الأميركية جزءاً كبيراً من هذه الاحتياطيات نظراً لسلامتها وسيولتها، وكونها (على عكس الذهب) توفر عائداً معروفاً.

وتُظهر بيانات وكالة “Safe” الصينية أن الأصول المقومة بالدولار شكلت 60% من إجمالي احتياطياتها بين عامي 2014 و2018. ويشير التطابق مع الأرقام الأميركية إلى أن الجزء الأكبر من هذه الأصول كان في سندات الخزانة الأميركية.

 

تغيير تركيبة محفظة الأصول الدولارية

في الآونة الأخيرة، أصبحت قيود محفظة الاستثمارات الثقيلة في سندات الخزانة الأميركية أكثر وضوحاً. ويشير الأستاذ في جامعة تسينغهوا والمستشار الحكومي، يو تشياو، إلى أن “الاحتفاظ بكميات ضخمة ومركّزة من الأصول ذات العوائد المنخفضة قد يؤدي إلى خسائر كبيرة في قوتها الشرائية في ظل بيئة تضخم مرتفع”.

وبدأت “Safe” بتغيير تركيبة محفظة استثماراتها المقومة بالدولار في عام 2017، وتسارعت وتيرة ذلك بعد الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022. ورغم أن موسكو خفضت احتياطياتها المقومة بالدولار منذ ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، فإن المسؤولين الصينيين لاحظوا سهولة تجميد أصول روسيا الدولارية في الخارج، وشعروا بالخطر من أنه في حال وقوع مواجهة جادة مع الولايات المتحدة، قد تواجه حيازات الصين الأكبر بكثير مصيراً مماثلاً.

وحذر باحثون، منهم بان ليو وتشانغ ويوان من جامعة تسينغهوا، في ورقة بحثية نُشرت عام 2024 من أن تجميد أصول موسكو في الخارج “يمثل تذكيراً صارخاً بالهيمنة المالية التي تمارسها الولايات المتحدة من خلال النظام الدولي القائم على الدولار”، وأن “الدرس للصين واضح”.

استوعبت الصين الدرس بعض الشيء، فسرّعت حيازاتها الرسمية من سندات الخزانة، والتي تراجعت خلال الفترة بين يناير/ كانون الثاني 2022 وديسمبر/ كانون الأول 2024، بأكثر من 27% لتصل إلى 759 مليار دولار، وفقاً لبيانات وزارة الخزانة الأميركية، متجاوزةً بذلك بكثير الانخفاض الذي بلغ 17% بين عامي 2015 و2022.

سندات الوكالات

تمثلت إحدى الاستراتيجيات المتبعة من الصين في الفترة الأخيرة زيادة حيازة السندات المعروفة باسم “السندات الوكالية”، والتي تصدرها كيانات ترعاها الحكومة الأميركية مثل فاني ماي “Fannie Mae” العاملة في مجال الرهن العقاري.

وتتسم هذه السندات بأنها تحمل تصنيفات ائتمانية مشابهة لسندات الخزانة الأميركية، لكنها تقدّم عوائد أعلى قليلاً. وبين عامي 2018 وبداية 2020، ارتفعت حيازة الصين من هذه السندات بنسبة 60% لتصل إلى 261 مليار دولار.

يقول الزميل البارز في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، براد سيتسر: “من الواضح أن الوكالات هي البديل الواضح لسندات الخزانة في السوق الأميركية”. “إن اهتمام [Safe] العام بالوكالات معروف جيداً، أكثر من اهتمام معظم البنوك المركزية الكبرى”.

الأسهم الخاصة

كما اتجهت “Safe” أيضاً إلى سوق الأسهم الخاصة (الاستثمار في الشركات غير المدرجة بالبورصة). من خلال شركة Rosewood للاستثمار، ذراعها الاستثمارية المتحفظة ومقرها نيويورك، استكشفت الوكالة أصولاً أميركية ذات عوائد أعلى، بدءاً من الأسهم الخاصة وصولاً إلى العقارات التجارية والبنية التحتية مثل مراكز البيانات.

ويقول أحد المقربين من Rosewood: “أعجبنا عائد الاستثمار في الأسهم الخاصة عندما كانت عوائد سندات الخزانة منخفضة. فقد ساعد ذلك في تعويض انخفاض عوائد السندات الحكومية”.

يجادل براد سيتسر وآخرون بأن حيازات الصين الحقيقية من سندات الخزانة قد تكون أعلى بكثير من الإجماليات المعلنة، نظراً لاستخدامها وسطاء حفظ مثل يوروكلير Euroclear في بلجيكا، وكليرستريم Clearstream في لوكسمبورغ لإخفاء ملكيتها المباشرة. ومع ذلك، فإن إجمالي استثماراتها طويلة الأجل في سندات الخزانة انخفض تدريجياً في السنوات الأخيرة، كما يقولون.

تقصير أجل الحيازات الأميركية

في خطوات أخرى، قامت “Safe” بتقصير مدة حيازاتها الأميركية وانتقلت إلى مديري أصول غير أميركيين. يقول أحد مديري الصناديق الأوروبيين، الذي حصل على إدارة مخصصات “Safe”، التي كانت تُدار سابقاً من شركات أميركية، هذا العام: “هذا لتنويع المخاطر على مستوى التنفيذ”.

تُدار في الوقت الحالي المزيد من الاحتياطيات الصينية خارج الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، التي يُمكنها تجميد الأصول بسهولة في أي وقت في حالة الدخول في صراع حاد مع الصين. في يناير/ كانون الثاني، قال محافظ بنك الشعب الصيني والمشرف على وكالة “Safe”، بان غونغ شنغ، إن هذه الخطوة ستزيد بشكل كبير من تخصيص احتياطيات البلاد لهونغ كونغ.

في حين لا تزال التفاصيل شحيحة، يعتقد البعض أن هذه الخطوة قد تتوسع لتشمل الأصول غير الأمريكية في آسيا – التي لا تزال مقومة بالدولار، ولكن من المحتمل أن تُصدرها دول أخرى وتُدار في أماكن أبعد عن مدار واشنطن.

يوضح أحد الأشخاص المطلعين على وكالة “Safe” قائلاً: “الهدف هو تحقيق أهداف متعددة. تحتاج الوكالة إلى الموازنة بين الأمان والعوائد والسيولة – والآن، الانفصال عن الولايات المتحدة”.

ويضيف المصدر أنه لا يمكن توسيع نطاق التعرض الإجمالي للولايات المتحدة أكثر، نظراً للرغبة في الانفصال، لذلك إذا رأت “Safe” قيمة في الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، فلا يمكنها ببساطة إضافتها إلى محافظها الحالية. يجب بيع سندات الخزانة طويلة الأجل عند استحقاقها أولاً ثم تحويل المخصصات إلى الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري.

وقال الشخص: “بهذا، يمكنك عملياً استبدال أصل أميركي بآخر، وتقصير آجال الحيازات الإجمالية”.

 

مخاوف من اتساع الصدام

تلقت جهود “Safe” التدريجية لإعادة تقييم أصولها صدمةً في الثاني من أبريل/ نيسان، عندما كشف ترامب عن نظامه الجديد للتعرفات الجمركية في حديقة البيت الأبيض. وانزعجت الأسواق العالمية من إعلان فرض تعرفات جمركية شاملة بنسبة 34% على جميع الواردات من الصين، وهي التي رفعها لاحقاً إلى 145%.

وأثارت المخاوف من تفاقم الشقاق في العلاقات الأميركية الصينية تساؤلات لدى المستثمرين العالميين حول إمكانية تحول النزاعات التجارية إلى مواجهة مالية، في حالة استخدام بكين حيازاتها الضخمة من سندات الخزانة كأداة للرد.

واستبعد الخبراء المطلعون على آلية عمل “Safe” التدريجية هذا الاحتمال إلى حد كبير، وكذلك كبار المسؤولين في واشنطن. قال وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت في مقابلة أجريت معه مؤخراً: “إذا اعتقد مجلس الاحتياطي الفدرالي أن خصماً أجنبياً يحاول استخدام سوق السندات الحكومية الأميركية كسلاح، أو يسعى لزعزعة استقراره لأهداف سياسية، فأنا واثق أننا كنا سنتخذ إجراءً مشتركاً، لكننا ببساطة لم نرَ ذلك يحدث”.

ويستطيع مجلس الاحتياطي الفدرالي، الذي يمتلك مجموعة كاملة من الأدوات، بما في ذلك التيسير الكمي الطارئ لتثبيت الأسعار ودفع العائدات إلى الانخفاض، أن يُحيّد أي بيع مكثف لسندات الخزانة بسرعة.

يقول مسؤول سابق في شركة “Safe”: “هذا سيترك الصين تبيع في سوق هابطة، دون أن يُحدث تغييراً حقيقياً [في الولايات المتحدة]”. ويضيف المسؤول أن البيع الطارئ لسندات الخزانة يُجرى في بعض الاقتصادات لجمع الأموال للدفاع عن العملة الوطنية.

مقترحات للتخلي عن الأصول الدولارية

في الأوساط الأكاديمية والسياسية الصينية، يُعدّ احتمال تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها بشكل انتقائي هو الأكثر إثارة للقلق – ويدعو بعض الباحثين المؤثرين في الوقت الحالي إلى التحرك نحو إلغاء الدولرة بشكل كامل، بدلاً من تعديلات تدريجية لمزيج الأصول المقومة بالدولار.

وتم طرح مجموعة من المقترحات الرامية إلى تحقيق ذلك في الأشهر الأخيرة، والتي تشمل تعزيز حيازات الديون السيادية من الاقتصادات المتقدمة الأخرى، أو استخدام بعض الاحتياطيات لدعم نظام التقاعد الصيني الذي يعاني من نقص التمويل. كما يكتسب تنويع العملات وزيادة مشتريات الذهب زخماً متزايداً.

تقول المديرة الأولى وكبيرة استراتيجيي الائتمان الآسيويين في CreditSights، زيرلينا زينغ: “من منظور التحوط من المخاطر، غالباً ما تُعتبر عملات مثل الفرنك السويسري والين الياباني ملاذات آمنة”. وتضيف: “لكنني لا أرى أن الصين ستعتمد بشكل كبير على الين، نظراً لعلاقات اليابان الوثيقة مع الولايات المتحدة”.

بدلاً من ذلك، تقول زينغ إنه “من المنطقي أكثر أن تزيد الصين من احتياطياتها من الذهب”. بعد ثلاث سنوات من انعدام النمو تقريباً، تُظهر البيانات الرسمية زيادة حادة بنسبة 18% في حجم احتياطيات الصين من الذهب منذ أواخر عام 2022. ويمثل الذهب الآن حوالي 6% من إجمالي احتياطيات الصين، ارتفاعاً من 2% فقط قبل بضع سنوات.

ويقول كبير محللي المعادن النفيسة في بنك HSBC، جيمس ستيل: “إن سبب رغبة البنك المركزي في امتلاك الذهب هو إمكانية استخدامه في أوقات الأزمات”، مضيفاً أن البنك المركزي الصيني “يفعل الصواب تماماً” من خلال عمليات استحواذ “معتدلة وغير مثيرة للمشاكل” على الذهب.