قبل إعادة الهيكلة: ماذا تبقى في مصارف لبنان؟

مع شروع لجنة المال والموازنة النيابيّة بمناقشة مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف، وبدء مصرف لبنان بوضع الإطار العام لخطّة إعادة هيكلة المصارف، يمكن القول أنّ البلاد باتت -للمرّة الأولى منذ العام 2020- أمام فرصة جديّة، تسمح بوضع حلّ ماليّ شامل للأزمة المصرفيّة. لا يمكن التكهّن اليوم بشكل هذا الحل النهائي، أو بإمكانيّة فرضه في وجه جزء من النخب المصرفيّة التي لا تملك مصلحة أصلًا في هذا النوع من الحلول. غير أنّ تحريك هذه المسارات الآن فتح النقاش حول مسائل عديدة، مثل الوضعيّة الماليّة الحاليّة للقطاع، وما تبقى من موجودات والتزامات، وما يمكن ضمانه من ودائع في ضوء هذه المعطيات.

بل ويمكن القول أنّ النقاش حول الوضعيّة الماليّة لم يقتصر على ميزانيّات القطاع الإجماليّة المجمّعة، أي أرقام المصارف مجتمعة. إذ تختلف وضعيّة كل مصرف على حدة، من جهة نسبة السيولة والملاءة، وقدرته على ضمان الحد الأدنى من كل وديعة، ناهيك عن حجم المجازفات والتجاوزات التي حصلت في الماضي. وهذا ما يفسّر مثلًا اختلاف مواقف المصارف من كل معالجة يتم طرحها. كما يفسّر عجز جمعيّة المصارف، وعدم قدرتها على بلورة موقف تفاوضي موحّد عند مخاطبة الحكومة وصندوق النقد. وما تقوم به الجمعيّة اليوم، لا يتعدّى حدود تقديم الملاحظات العامّة على كل مشروع قانون، من دون طرح أهداف تفاوضيّة عامّة، كما يفترض أن تفعل كمجموعة ضغط تمثّل القطاع.

وضعيّة القطاع المصرفي
في ميزانيّات القطاع المجمّعة، حتّى نهاية العام 2024، 88.65 مليار دولار من الودائع. وهذا ما يقل بحدود الـ 6.1 مليار دولار، أو الـ 6.4%، عن حجم هذه الودائع قبل سنة واحدة. هذا المؤشّر، يشير إلى استمرار عمليّة تذويب أو تصفية الودائع حتّى اللحظة، وبمرور كل سنة. وإذا كانت عمليّات بيع الشيكات لتسديد القروض قد تراجعت، بعد تصفية معظم القروض، فالسحوبات الشهريّة بحسب تعاميم المركزي وسحب الودائع بالليرة لم تتوقّف يومًا، كما لم يتوقّف تآكل الودائع بفعل بعض العمولات المرتفعة التي تفرضها المصارف على ودائع “اللولار”.

في كل الحالات، يمكن التذكير أيضًا أن حجم الودائع في أواخر العام 2019 كان يوازي 158.86 مليار دولار. وهذا ما يعني أنّ القطاع صفّى 44% من حجم الودائع الموجودة فيه، خلال فترة خمس سنوات. وفضلًا عن بيع الشيكات لتسديد القروض والسحوبات الشهريّة بالليرة والدولار، جرت هذه التصفية أيضًا بفعل تدهور سعر صرف الليرة، ما عنى تخفيض قيمة الودائع المقوّمة بالعملة المحليّة. وفي الخلاصة، بلغت قيمة الودائع التي صفّاها القطاع خلال سنوات الأزمة الخمس 70.21 مليار دولار أميركي، من بينها جزء كبير من الأموال التي جرى سحبها بالليرة وبأسعار صرف منخفضة للغاية، أو ببيع الشيكات بأسعار منخفضة، ما مثّل عمليّة توزيع غير معلنة (وغير عادلة حتمًا) للخسائر.

من ناحية الموجودات في الميزانيّة، بات حجم القروض المتبقية لا يتجاوز الـ 5.65 مليار دولار في أواخر العام 2024، مقارنة بأكثر من 49.77 مليار دولار أميركي في أواخر العام 2019. وبذلك يكون القطاع أيضًا قد صفّى 89% من حجم القروض الموجودة في ميزانيّاته، خلال سنوات الأزمة. وهنا، قد يكون من المفيد التذكير بمسألتين: أولًا، عمليّة تسديد القروض الكبيرة عبر شراء المقترضين لشيكات مصرفيّة من المودعين، وبخصومات كبيرة من قيمة الوديعة. وثانياً، لجوء بعض كبار المقترضين، من النافذين وأصحاب الصلات بأصحاب المصارف، إلى تسديد قروضهم المدولرة بالليرة وبسعر الصرف الرسمي القديم. وفي الحالتين، كانت عمليّة تصفية القروض تمثّل أيضًا توزيعًا غير عادل وغير متكافئ لخسائر الأزمة.

 خلال هذه السنوات، لم تقتصر عمليّة التصفية على الودائع والقروض، بل شملت كذلك نطاق عمليّات القطاع، التي جرى ترشيقها للتلاءم مع حالة الانكماش القائمة. خلال السنوات الخمس، انخفض عدد الفروع المصرفيّة من 1058 فرعًا في أواخر العام 2019، إلى 635 فرعًا في أواخر 2024، ما يعني أن القطاع المصرفي أقفل خلال هذه الفترة 40% من فروعه العاملة في لبنان. وفي الفترة نفسها، انخفض عدد موظفي المصارف من 24.7 ألف موظف، إلى 13 ألف موظّف، ما يعني أنّ القطاع تخلّص من 47% من موظفيه. وفي الكثير من الحالات، لم تضطر معظم المصارف إلى تنظيم عمليّات صرف منظمة، بل كان كافيًا الامتناع عن تصحيح الأجور بشكلٍ سريع، لدفع الموظفين الأكثر كفاءة –والأعلى كلفة من حيث الرواتب- للمغادرة.

أسهم أصحاب المصارف
في الميزانيّات نفسها، يظهر رقم 4.82 مليار دولار أميركي في أواخر العام 2024، كقيمة إجماليّة لـ “حقوق المساهمين” في المصارف، أي لقيمة أسهم المصارف نفسها. وهذا الرقم مثّل انخفاضًا بنسبة 5.33%، مقارنة بقيمة هذه “الحقوق” في أواخر العام السابق 2023، والتي بلغت 5.09 مليار دولار أميركي. ومع ذلك، من المهم التنويه أنّ ثمّة شكوك في صحّة هذا الرقم، إذ أنّ الكثير من موجودات المصارف ما زالت مسجّلة بقيمتها التاريخيّة، ولم تتم إعادة تقويمها وفقًا لأسعار السوق الحاليّة، بالرغم من صدور تعاميم لمصرف لبنان تجيز إعادة التقييم. ولو جرت عمليّة إعادة التقييم بشكلٍ دقيق، لكان من الممكن لحظ قيمة أعلى لحقوق المساهمين.

ما الهدف من تخفيض قيمة الأصول، وبالتالي حقوق المساهمين، في الميزانيّات؟ تدرك المصارف أن أي عمليّة إعادة هيكلة ستفرض امتصاص أوّل شريحة من الخسائر عبر شطب حقوق المساهمين، ومن ثم فرض إعادة رسملة المصرف عبر ضخ أموال جديدة من قبل المساهمين (أو إدخال مساهمين جدد). وخفض قيمة الأصول وحقوق المساهمين الحاليّة، سيخفّض من حجم الأموال التي سيضطر أصحاب المصارف لتأمينها، للحفاظ على ملكيّة مصارفهم، بعد شطب قيمة “حقوق المساهمين” الحاليّة.

لهذا السبب بالذات، اشترط صندوق النقد على لبنان عام 2022 إجراء تدقيق في ميزانيّات أكبر 14 مصرفًا لبنانيًا، للوقوف عند قيمة الأصول المتبقية، وحجم الفجوة الموجود في كل مصرف على انفراد. ونظرًا لحساسيّة المسألة، لم يتم إجراء هذا التدقيق، بعد عراقيل متعدّدة جرى وضعها من جانب المصارف ومصرف لبنان (في تلك المرحلة، تحت قيادة رياض سلامة). وكما بات معروفاً اليوم، جرى التذرّع بعدم توفّر السيولة لتسديد كلفة التدقيق، وبعد تأمين التمويل جرى التذرّع بقانون السريّة المصرفيّة لعدم إجراء التدقيق. أمّا اليوم، وبعد إقرار قانون رفع السريّة المصرفيّة، وبعد التغيير في أعلى هرم القيادة في مصرف لبنان، بات من الممكن المطالبة مجددًا بإجراء هذا التدقيق.

علي نور الدين